فبينما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أبلغه بضرورة تجاهل الصفقات الجزئية وحسم المعركة بكل قوة، شدد في الوقت نفسه على أن الجيش الإسرائيلي وحده سيتحمّل مسؤولية أي فشل في السيطرة على مدينة غزة.
وفي قلب هذا المشهد المتشابك، تبدو حركة "حماس" في عين العاصفة: قيادات تُصَفَّى في الداخل وتُلاحق في الخارج، وروايات عن تراجع تنظيمي تواجهها الحركة.
غير أن السؤال المركزي يبقى: هل نجحت إسرائيل فعلًا في تحقيق أهدافها داخل القطاع، أم أن الفشل يلاحقها رغم الكلفة الباهظة؟
نتنياهو ورسائل القوة
تصريحات نتنياهو في الكنيست عكست ملامح المسار الذي يحاول رسمه للحرب على غزة. إذ كشف أن الرئيس دونالد ترامب أبلغه بضرورة المضي في الحسم العسكري وعدم الالتفات إلى أي صفقات جزئية، في إشارة واضحة إلى أن التفاهمات المحدودة مع "حماس" أو الوسطاء الإقليميين ليست على جدول الأعمال.
لكن نتنياهو أرفق هذه الرسالة بتحميل الجيش الإسرائيلي كامل المسؤولية عن أي إخفاقات في خطة السيطرة على غزة، كما ذكرت صحيفة هآرتس.
هذا التناقض بين تبني قرار الحسم من جهة والتنصل من مسؤولية نتائجه من جهة أخرى، يعكس وفق محللين محاولة من نتنياهو لإعادة رسم موازين المسؤولية بينه وبين المؤسسة العسكرية، خاصة مع تصاعد الانتقادات الداخلية حول مسار الحرب.
وثيقة "مركبات جدعون".. فشل معلن أم إنكار رسمي؟
القناة 12 الإسرائيلية كشفت عن وثيقة داخلية للجيش أظهرت أن عملية "مركبات جدعون" قد فشلت، رغم إعلان رئيس الأركان أنها كانت ناجحة.
الوثيقة تحدثت بوضوح عن أن الجيش ارتكب كل الأخطاء الممكنة: شن هجمات تخالف عقيدة الحرب، استنزاف القوات دون إدارة موارد أو وقت، وخسارة المصداقية الدولية.
الأخطر أن الوثيقة أكدت أن أسلوب قتال الجيش لم يتوافق مع عقيدة "حماس" القتالية، التي تعتمد على حرب العصابات والمرونة الميدانية.
هذا الفارق كشف عن فجوة كبيرة بين التصور الإسرائيلي للعملية وواقعها على الأرض، حيث وُضعت استراتيجية لم تستطع مواجهة التكتيكات المتحركة لـ"حماس".
هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والوثائق المسربة يسلط الضوء على أزمة ثقة داخلية بين القيادة السياسية والعسكرية، ويطرح سؤالًا عن مدى واقعية الخطط المطروحة للمرحلة المقبلة.
استراتيجية السيطرة على غزة
قدّم محرر الشؤون الفلسطينية في سكاي نيوز عربية، سلمان أبو دقة، خلال حديثه إلى "الظهيرة" تفسيرًا عمليًا لما يقصده نتنياهو عندما يتحدث عن "توسيع العملية".
بحسب أبو دقة، فإن الهدف هو توسيع السيطرة على مدينة غزة في شمال القطاع، حيث تعتقد إسرائيل أن الغالبية الكبرى من القادة العسكريين والسياسيين لـ"حماس" يتحصنون.
الخطة الإسرائيلية ــ كما أوضح ــ تقوم على تفريغ المدينة من سكانها ودفعهم نحو وسط وجنوب القطاع إلى ما يُسمى "المناطق الإنسانية" التي يسعى الجيش لإقامتها. بيد أن الواقع الميداني مختلف تمامًا: معارك عصابات تدور في شوارع غزة، مقاومة شرسة من مقاتلي "حماس"، وقصف إسرائيلي يحول أحياء كاملة إلى ركام، دون أن يسلم المدنيون من هذه الهجمات.
أشار أبو دقة في الاثناء إلى أن إسرائيل لم تحقق بعد هدفها المركزي بجعل شمال غزة خالية من السكان الفلسطينيين، وأن ما يحدث حاليًا هو تدمير ممنهج لأحياء كاملة، في سياق استراتيجية قد تكون مرتبطة بما تسميه تل أبيب "اليوم التالي" للحرب.
قيادات "حماس".. بين الاغتيال والملاحقة
منذ هجوم 7 أكتوبر 2023، ركزت إسرائيل عملياتها على استهداف القيادات العسكرية والسياسية لحركة "حماس". تم اغتيال يحيى السنوار وشقيقه محمد، إلى جانب محمد الضيف، الذين اعتُبروا قيادات الصف الأول المسؤولة عن الهجوم.
كما امتدت يد الاغتيال إلى الخارج: نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري الذي تم اغتياله في ضاحية بيروت الجنوبية، وإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي، الذي تم اغتياله في طهران.
هذه الضربات، بحسب الرواية الإسرائيلية، تهدف إلى تحييد القيادة المركزية لـ"حماس" وتفكيك بنيتها.
مع ذلك، يشير أبو دقة إلى أن القيادة السياسية للحركة في الخارج ما زالت تمثل ورقة ضغط لإسرائيل. الإعلام الإسرائيلي تداول معلومات عن وجود قادة في قطر وتركيا ودول أخرى، ومع ذلك، تبقى هذه الورقة مرتبطة بصفقات تبادل الأسرى، حيث تحاول إسرائيل استخدام التهديد للوصول إلى صفقة "جزئية" تضمن تحرير رهائنها، حتى لو لم تُنهِ الحرب.
الأهداف الإسرائيلية.. فجوة بين الخطاب والواقع
3 أهداف رئيسية أعلنتها إسرائيل منذ بدء عمليتها العسكرية: القضاء على "حماس"، إعادة الرهائن، وإعادة تشكيل غزة بما لا يشكل تهديدًا أمنيًا لها. إلا أن أبو دقة يرى أن هذه الأهداف لم تتحقق حتى الآن، وأن الاستراتيجية الإسرائيلية نفسها تقوم على فرضيات غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.
ما تحقق حتى اللحظة هو تدمير واسع للبنية التحتية في غزة، ودفع السكان نحو الهجرة والنزوح، وهو ما يمكن اعتباره تنفيذًا عمليًا لسياسة "التهجير الطوعي". فبدلًا من تفكيك "حماس"، ساهمت الحرب في خلق بيئة إنسانية كارثية: مجاعة، أمراض، انهيار الخدمات، ما يترك السكان أمام خيارين قاسيين: الموت أو الرحيل.
موقف واشنطن
من القدس، أوضح محرر الشؤون الإسرائيلية في سكاي نيوز عربية، نضال كناعنة، أن موقف الولايات المتحدة، وتحديدًا الرئيس ترامب، ملتبس وضبابي. فهو لا يعطي إسرائيل ضوءًا أخضر صريحًا لاحتلال غزة، لكنه في الوقت نفسه لا يضع خطوطًا حمراء.
ترامب يطبق ــ وفق كناعنة ــ سياسة "النأي بالنفس": لا يتدخل مباشرة، لكنه لا يمنع إسرائيل من المضي في خياراتها إذا رأت أنها الحل. الشرط الوحيد الذي وضعه هو سقف زمني حتى نهاية العام، وهو ما اعتبره نتنياهو كافيًا لتحقيق أهدافه وربما إقناع ترامب لاحقًا بتمديده.
هذا الموقف يتيح لنتنياهو مساحة واسعة للمناورة السياسية، إذ يستطيع تسويقه داخليًا كنوع من "الدعم الضمني" من واشنطن، حتى وإن لم يكن تفويضًا مباشرًا. غير أن ضبابية واشنطن تعكس أيضًا حذرًا من الانجرار إلى تبعات الحرب، خصوصًا مع تزايد الضغوط الدولية على إسرائيل.
حرب نتنياهو الداخلية مع الجيش
لفت كناعنة خلال مداخلته أيضًا إلى أن الأزمة ليست فقط حربًا على غزة، بل حربًا داخلية بين نتنياهو والجيش الإسرائيلي. فالهجوم العلني الذي يشنه نتنياهو على رئيس الأركان وقادة الجيش ليس مجرد تبادل اتهامات، بل محاولة واضحة لنقل عبء الفشل إلى المؤسسة العسكرية.
المنطق العسكري يقول إن استنساخ عملية "مركبات جدعون" الفاشلة إلى نسخة ثانية لن يؤدي إلا إلى فشل جديد. لكن المنطق السياسي لنتنياهو مختلف: تحميل الجيش مسؤولية الفشل، وإظهار نفسه كقائد سياسي "نظيف" أمام لجان التحقيق والرأي العام الإسرائيلي.
بهذا، يحاول نتنياهو تحويل الحرب من معركة عسكرية خاسرة إلى أداة سياسية قد تمكنه من النجاة انتخابيًا، حتى لو كان الثمن مزيدًا من الخسائر الاستراتيجية لإسرائيل على المستوى الدولي.
الحسابات الداخلية.. بين الرأي العام والانتخابات
المعادلة الداخلية في إسرائيل لا تقل تعقيدًا. وفق كناعنة، هناك قاعدة صلبة مؤيدة لنتنياهو تشبه جماهير كرة القدم، تظل متمسكة به سواء فاز أو خسر. لكن الأغلبية باتت ضده، ما يجعل الانتخابات المقبلة معركة وجودية له.
منذ 7 أكتوبر، يدرك نتنياهو أن يوم الانتخابات هو يوم المحاسبة الحقيقي، أكثر من أي لجنة تحقيق أو مساءلة قضائية. لذلك بدأ بالتفكير في إعادة تجميع اليمين الغاضب من خلال تشكيل أحزاب جديدة تدور في فلكه، بحيث ينضم هذا "اليمين المفكك" مجددًا إلى حكومته بعد الانتخابات.
هذه الاستراتيجية السياسية تفسر جزءًا من إطالة أمد الحرب: كسب الوقت حتى يتسنى له إعادة رسم الخريطة السياسية الإسرائيلية بما يخدم بقاءه في الحكم.
الحرب في غزة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل و"حماس"، بل تحولت إلى شبكة متداخلة من الرسائل السياسية والعسكرية والدبلوماسية.
تصريحات نتنياهو عن الحسم العسكري ترافقها وثائق عسكرية تكشف الفشل، بينما يحمّل الجيش وزر الإخفاقات ليتفادى المحاسبة الانتخابية المقبلة. الموقف الأميركي يبقى ضبابيًا، يمنح مساحة للمناورة دون التزام صريح.
أما على الأرض، فالمشهد أكثر قسوة: تدمير واسع، نزوح جماعي، وقيادات فلسطينية تُغتال داخل القطاع وخارجه، دون أن يتحقق هدف القضاء على "حماس" أو تحرير الرهائن.
بين غزة والضفة، تتضح رسائل إسرائيلية ملتبسة: حرب معلنة على "حماس"، لكنها أيضًا حرب خفية بين نتنياهو ومؤسسته العسكرية، وحرب سياسية يخوضها رئيس الوزراء من أجل مستقبله الانتخابي. وفي كل ذلك، يبقى المدنيون الفلسطينيون في قلب المأساة، يدفعون الثمن الأكبر لصراع لم تتضح بعد نهاياته.
0 تعليق