الرياضات الإلكترونية.. قصة وطنية عينها على العالمية - هرم مصر

عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
حين حضر ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان نهائي كأس العالم للرياضات الإلكترونية في الرياض؛ لم تكن تلك اللحظة مجرد إطلالة بروتوكولية في حدث رياضي؛ بل كانت بمثابة إعلان حضاري ورمزي يوضح كيف تحولت الرياضات الإلكترونية في المملكة من نشاط ترفيهي إلى صناعة كبرى، وركيزة استثمارية ذات أبعاد إستراتيجية.

في بلد يشكل الشباب نحو ثلثي سكانه؛ لم يعد من المستغرب أن تكون هذه الصناعة الرقمية الجديدة إحدى بوابات السعودية نحو المستقبل، وأن تصبح جزءًا من سردية رؤية 2030 التي تعيد صياغة دور المملكة في العالم.

تُعد الرياضات الإلكترونية اليوم من أسرع الصناعات نموًا على مستوى العالم، حيث يُشارك فيها مئات الملايين من اللاعبين والمتابعين، بينما تحقق بطولاتها نسب مشاهدة تفوق أحيانًا بطولات رياضية تقليدية عريقة. لقد تحولت بالفعل من مجرد تسلية إلى اقتصاد متكامل له منظومته الإعلامية، وجمهوره المتفاني، ورعاته الكبار.

السعودية التقطت هذا التحول مُبكرًا؛ فأطلقت في عام 2022 الإستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، وهي خارطة طريق شاملة تهدف إلى جعل المملكة مركزًا عالميًا للقطاع بحلول 2030. هذه الإستراتيجية تركز على عناصر متعددة: دعم المحتوى المحلي، تمكين الشركات الناشئة، توفير بيئة تشريعية وتشغيلية جاذبة، واستقطاب الاستثمارات العالمية، إلى جانب تنظيم بطولات كبرى تعزز حضور المملكة عالميًا. والأهم أن هذه الإستراتيجية ليست مجرد شعارات؛ بل أهداف عملية تشمل تأسيس شركات محلية، وتطوير ألعاب سعودية قابلة للتصدير، وخلق فرص وظيفية مباشرة وغير مباشرة، مع مساهمة اقتصادية متنامية في الناتج المحلي.

أما على مستوى السوق المحلي، فقد شهد قطاع الألعاب الإلكترونية تطورًا نوعيًا في السنوات الأخيرة جعل المملكة واحدة من أكبر الأسواق في المنطقة. فهي تتصدر من حيث حجم الإنفاق على الألعاب الإلكترونية، وعدد المستخدمين النشطين، وسرعة نمو المحتوى المحلي. ويمتد هذا القطاع ليشمل عناصر متكاملة: من تطوير الألعاب الإلكترونية، والبنية التحتية التقنية، إلى منظومة البطولات والفعاليات، والمجتمعات التفاعلية التي تعكس إبداع الشباب السعودي وحيويته. وبذلك، لم تعد الرياضات الإلكترونية مجرد ترفيه فردي، بل تحولت إلى نظام اقتصادي ومهني متكامل مدعوم برؤية إستراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى تمكين المواهب، واستقطاب الاستثمارات، وتعزيز الاقتصاد الرقمي.

الاستثمارات الحكومية والخاصة تكشف بوضوح هذا التوجه. فقد أعلنت مجموعة Savvy Gaming Group عن ضخ استثمارات كبيرة في القطاع، تشمل الاستحواذ على شركات عالمية كبرى، ودعم الشركات الناشئة، وتطوير بنية تحتية قوية. وفي المقابل، تبنّت شركات وطنية مثل stc دورًا محوريًا، إذ أصبحت الشريك المؤسس والرائد لكأس العالم للرياضات الإلكترونية، كما استثمرت في شبكات الجيل الخامس والألياف الضوئية لضمان تجربة لعب عالية الكفاءة، ودخلت في شراكات محلية ودولية، ما عزز مكانة المملكة كمركز عالمي في هذا المجال.

كأس العالم للرياضات الإلكترونية، الذي تستضيفه الرياض سنويًا، يمثل التجسيد العملي لهذه الرؤية. ففي نسخته الأولى اجتمع لاعبون محترفون من عشرات الدول، وتابع البطولة جمهور ضخم عبر الإنترنت، فيما استقطبت العاصمة ملايين الزوار، حيث قدمت النسخة الثانية من هذه البطولة أكثر من 7000 ساعة بث مُباشر بزيادة قدرها 55% عن نسخة 2024م، وهو الرقم الأكبر في تاريخ الرياضات الإلكترونية والثاني على مستوى الأحداث الرياضية العالمية كافة، ويصل إلى 140 دولة حول العالم بمحتوى مُترجم وموزّع بـ35 لغة مُختلفة.

ومع تزايد نسب الحضور الدولي في نسخة البطولة للعام 2025م، وتنامي قيمة الجوائز، تحولت البطولة من حدث رياضي إلى منصة حضارية تعكس قدرة السعودية على أن تكون في قلب صناعة رقمية جديدة، تربط الشرق بالغرب تحت سقف واحد.

الأثر الاقتصادي والاجتماعي للقطاع يتجاوز الأرقام المباشرة. فالمملكة تسعى إلى إضافة قيمة كبرى إلى ناتجها المحلي، وتوفير فرص وظيفية جديدة تشمل مجالات لم تكن مألوفة من قبل مثل التدريب، التحليل الرقمي، صناعة المحتوى، وتنظيم البطولات. السياحة بدورها شهدت قفزات نوعية مع استضافة الفعاليات الكبرى، بفضل التأشيرات الإلكترونية والبرامج الثقافية المرافقة، بينما انعكس الاهتمام على البنية التحتية، حيث تحسنت سرعات الاستجابة للألعاب الرقمية بشكل ملحوظ، ما جعل تجربة اللاعبين السعوديين تضاهي أقرانهم في المراكز العالمية.

هذه النقلة السريعة وضعت المملكة في مقارنة طبيعية مع تجارب دول أخرى بنت هويتها على الألعاب الإلكترونية. كوريا الجنوبية جعلت من هذه الصناعة منذ مطلع الألفية رمزًا لحداثتها الثقافية، تمامًا كما فعلت موسيقى K-Pop. اليابان منذ ثمانينيات القرن الماضي ارتبط اسمها عالميًا بشركات Nintendo وSony، وأصبحت الألعاب رمزًا للإبداع الوطني. الصين دخلت العقد الأخير باستثمارات هائلة عبر شركات مثل Tencent، وجعلت من الرياضات الإلكترونية جزءًا من قوتها الناعمة. لكن السعودية أضافت لمستها الخاصة: لم تكتف باستنساخ التجارب أو الاستثمار فيها فحسب؛ بل دشنت مشروعًا حضاريًا متكاملًا يربط الاقتصاد بالثقافة، ويجعل الرياضات الإلكترونية جزءًا من هويتها الوطنية الحديثة.

هذا البعد الحضاري تجسد في مؤتمر الرياضة العالمية الجديدة الذي أقيم موازيًا للبطولة، وجمع قادة الألعاب والتقنية والإعلام لرسم ملامح المستقبل. بذلك، تحولت الرياض إلى عاصمة عالمية للحداثة الرقمية، ومنصة للنقاش والإبداع، لا مجرد مستضيف لبطولة.

إن التحوّل السعودي في الرياضات الإلكترونية ليس مُجرد قصة عن اقتصاد أو ترفيه؛ بل هو فصل جديد في مسار حضاري. الحضارات تصنع صورتها من خلال رموزها الثقافية: السينما في أمريكا، كرة القدم في أوروبا، والآن الرياضات الإلكترونية كلغة الجيل الرقمي. والسعودية اليوم تكتب سرديتها عبر هذه الصناعة، مؤكدة أنها لا تراقب هذا العصر من بعيد؛ بل تصنعه بوعي وطموح. وحين وقف ولي العهد في منصة تتويج كأس العالم للرياضات الإلكترونية للمرة الثانية على التوالي، بعث بذلك رسالة مفادها أن المملكة اختارت أن تكون في قلب صناعة المستقبل، وأن الرياضات الإلكترونية ليست لعبة عابرة، بل مرآة لطموح أمة تتقدم بثبات نحو الغد.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق