كيف تعيد «وصفة كعك»؟ - هرم مصر

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. راسل قاسم

في خمسينات القرن الماضي، طرحت إحدى الشركات الأمريكية المشهورة منتجاً مبتكراً، على شكل خلطة كعك فورية تحتوي على جميع المكونات، بما فيها البيض والحليب المجفف، ولا يتطلب تحضيرها سوى إضافة الماء. منتج يبدو مثالياً لربات البيوت، يوفر الوقت والجهد، ويضمن نتيجة ممتازة. ومع ذلك، جاءت المفاجأة، المنتج لم ينجح. المبيعات كانت مخيبة للآمال، رغم جودة الطعم وسهولة التحضير.
استعانت الشركة بعلماء نفس لفهم الظاهرة، فكانت النتيجة مفاجئة، ربات البيوت لم يشعرن بالراحة تجاه منتج يسهل المهمة إلى هذا الحد. شعور بالذنب تسلل إليهن، كأنهن يخدعن أزواجهن وضيوفهن بتقديم كعكة لم يجهدن في إعدادها. بدا الأمر كما لو أن البساطة الزائدة نزعت عن التجربة قيمتها.
لم تلجأ الشركة في وقتها إلى حملات تسويقية مكثفة لإقناع المستهلكات، بأن توفير الوقت لا يقلل من قيمة العطاء، بل فعلت ما قد يبدو غير منطقي، وذلك بأن جعلت المنتج أكثر تعقيداً. تم حذف البيض المجفف، وطُلب من المستهلكات إضافة بيضة حقيقية بأنفسهن. شعار الحملة الجديدة كان بسيطاً ومباشراً «أضيفي بيضة». النتيجة؟ ارتفعت المبيعات بشكل كبير. البيضة لم تغير الطعم كثيراً، لكنها غيرت المعنى.
ما حدث هنا يتجاوز حدود التسويق، إنه درس في الإدارة. قد يعتقد بعض المديرين أن تسهيل المهام وتبسيط الإجراءات، وتقديم كل شيء جاهزاً للموظفين هو السبيل لرفع الكفاءة وتحقيق النتائج. لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. حين تُصاغ الاستراتيجيات بمعزل عن الموظفين، وتُفرض عليهم أدوات العمل دون مساهمة منهم، يتحول العمل إلى واجب ميكانيكي. لا يشعر الموظف بملكيته للنتائج، ولا يرتبط وجدانياً بما يصنعه.
ربما يحتاج المدير أحياناً، إلى أن «يحذف البيض المجفف» من نظامه الإداري. أي أن يتخلى عن بعض من الجاهزية المفرطة، ويفسح للموظفين مجالاً لإضافة لمساتهم الخاصة. لا يتعلق الأمر بتفويض كبير أو مسؤوليات ضخمة، بل بمجرد فرصة يشعر معها الفرد بأنه جزء من المعادلة، أو أنه ساهم بشيء شخصي في خلق القيمة.
إن تفاصيل صغيرة كالمشاركة في اتخاذ القرار، أو الإسهام في تحسين آلية عمل، يمكن أن تحوّل موظفاً يؤدي دوره فقط إلى موظف يصنع فرقاً.
نشاهد اليوم في الشركات الناشئة أو فرق العمل المرنة كيف تُوزع المهام بطريقة تعاونية، تجعل كل فرد يشعر بأنه مساهم أصيل في النتيجة النهائية. حتى في المؤسسات الكبرى، بدأت مفاهيم مثل «التصميم المشترك» و«ورش الابتكار» تحل محل قرارات الإدارة العليا. فحين يطلب من الفريق المساهمة في صياغة الحلول، بدلاً من تلقي التعليمات، يتضاعف التزامهم، وتتحول المهمة من إجراء إداري إلى تجربة شخصية.
وتتجلّى هذه الفلسفة واقعاً داخل مؤسسات رائدة، حيث بات إشراك الموظف في تشكيل الحلول، جزءاً من ثقافتها التنظيمية. في شركات مثل IDEO وGoogle، تنظّم ورش عمل تشاركية لا تقتصر على المديرين، بل تجمع الموظفين من مختلف الأقسام، وأحياناً العملاء أنفسهم، لصياغة الحلول بشكل جماعي. أما في بيئات التصنيع، كما في مصانع Toyota، فقد أصبح من المألوف أن يقترح العاملون تحسينات يومية تنفّذ على الفور دون الحاجة إلى تسلسل إداري معقد.
وفي مؤسسات استشارية مثل McKinsey وDeloitte، يُفتح المجال أمام الأفراد لترشيح أنفسهم للمشاركة في مبادرات استراتيجية، ما يمنحهم شعوراً بالاختيار والتأثير. وفي شركات التقنية والإبداع مثل 3M وAdobe، باتت منصات الاقتراحات المفتوحة أداة أساسية تستثمر فيها أفكار الموظفين وتُطبق فعلياً، بل وأحياناً تُبنى حولها مشاريع كاملة. وحتى خارج أسوار المؤسسة، تنظم علامات تجارية مثل LEGO وNike جلسات تصميم مفتوحة مع العملاء أنفسهم لاختبار النماذج الأولية والمساهمة في تطويرها. كل هذه الممارسات تتشارك في فكرة واحدة هي منح الأفراد فرصة أن يشاركوا في صياغة التجربة، لا أن يكونوا مجرد منفذين لها.
أعتقد أن ما يجعل الإنسان مرتبطاً بعمله ليس حجم الجهد المبذول فحسب، بل الشعور بأن جهده ترك أثراً. أن الكعكة التي خرجت من الفرن، بكل ما فيها من مذاق وشكل، تحمل بصمته. الإدارة التي تدرك هذا البعد النفسي تستطيع أن تزرع الانتماء دون الحاجة إلى مكافآت ضخمة أو خطب تحفيزية. يكفي أن تتيح للناس أن يضيفوا «بيضة» واحدة إلى سياق العمل.
إن الدرس المستفاد من خلطة الكعك لا ينحصر في مجال المنتجات أو التسويق، بل يمتد إلى عمق فلسفة الإدارة. أحياناً، لا تكمن الحكمة في إعطاء المزيد، بل في التراجع خطوة، وإعطاء الآخرين فرصة، ليكملوا العمل بأنفسهم. فالإبداع لا يولد دائماً من الإضافة، بل من النقص الذي يستفز المشاركة، ويوقظ الإحساس بالمعنى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق