تسير دولة الاحتلال الإسرائيلي من فشل إلى فشل ومن إخفاق إلى إخفاق، فمن تجويع المدنيين الذي أكدته الأمم المتحدة، إلى قتل الصحفيين الذي يراه العالم كله على البث المباشر، إلى الفشل في إدارة ملف المفاوضات، وبشهادة مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى مثل ماثيو ميلر المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية.
وكل هذه الإخفاقات تعكس انفراط عقد الرواية الإسرائيلية، وتخبطها وتضييق الخناق عليها.
الاستمرار في اغتيال أصوات الحقيقة
تدرك دولة الاحتلال كل أنواع الفشل والإخفاق التي تتعرض لها في كافة المستويات، ولذلك تلجأ إلى التغطية على هذه الجرائم عبر المزيد منها.
فقد أقدمت دولة الاحتلال الإسرائيلي على جريمة كبرى أخرى باغتيال مجموعة من الصحفيين، منهم مصور الجزيرة محمد سلامة، والمصور حسام المصري، والصحفية مريم أبودقة.
ومن قبل ذلك أقدمت على اغتيال أنس الشريف، ومحمد قريقع، وأكثر من 240 صحفيا فلسطينيا للتغطية على فشلها في منع نقل الحقيقة من غزة.
إن اغتيال الصحفيين والاستهداف المنهجي لهم، دليل صارخ على فشل الاحتلال وعجزه عن إخفاء جرائمه وصورته الحقيقية وانهيار سرديته، ولا بد أن يكون هناك ردود فعل تعمق عزلة هذا الاحتلال من كل صحفيي العالم للتضامن مع زملائهم في غزة، ولا بد من المزيد من تعرية صورة الاحتلال عالميا حتى لا يفلت من العقاب.
الفشل في ملف المفاوضات
أعلنت حركة حماس مؤخرا موافقتها على مقترح وقف إطلاق النار الذي قدمه الوسطاء، وبهذا ألقت الكرة في ملعب حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي تعمل على إطالة أمد الحرب، والتي عملت أكثر من مرة على التنصل من مسار المفاوضات في كل مرحلة مفصلية، بالرغم من موافقة المقاومة الفلسطينية.
ومن ذلك ما قام به رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 5 مايو/أيار 2024 عندما وافقت حماس على مقترح إطلاق النار الذي سُمي "مقترح بايدن"، حيث رفض نتنياهو هذا المقترح، وقام بتهجير سكان مدينة رفح والنازحين إليها، وقام باحتلالها ومن ثم تدميرها بشكل كامل.
إعلان
وبعد اتفاق يناير/كانون الثاني 2025 والذي دخل قيد التنفيذ، رفض الاحتلال الانسحاب من محور صلاح الدين "فيلادلفيا"، ورفض المضي في التفاوض حول بقية الملفات في ظل حالة من الهدوء، بل أنهى التعامل مع الاتفاق، وذهب إلى تطبيق الضغط العسكري مع حملة تجويع وتهجير مستمرة.
وفي 18 أغسطس/آب الجاري قامت حماس بالموافقة على ما سُمي مقترحا يتطابق مع مقترح ويتكوف الذي تم بالتشاور مع الاحتلال الإسرائيلي، ولكن حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي توافقت مع ويتكوف على هذا المقترح رفضت التعاطي بإيجابية حتى الآن مع موافقة حماس.
وقد أشاد الوسطاء بشكل أو بآخر بموقف حماس الإيجابي، حيث قالت قطر إن رد "حماس" إيجابي، ويكاد يتطابق مع ما وافقت إسرائيل عليه سابقا، بينما أعلنت مصر تحقيق تقدم مهم، مشيرة إلى أن الكرة أصبحت في ملعب إسرائيل.
وهذا الأمر أظهر حقيقة الموقف التعطيلي الذي يتبناه نتنياهو وائتلافه الحكومي أمام المجتمع الدولي وأمام كل الجهات المتابعة لملف المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة.
بالرغم من وجود خلافات بين المستويين؛ السياسي والعسكري، حول جدوى العملية العسكرية بعد فشل عدة عمليات عسكرية، وأن الضغط العسكري بلغ مداه، ألقت موافقة حماس على مقترح الوسطاء لوقف إطلاق النار حجرا في بحيرة الخلافات الإسرائيلية، مما جعل رئيس أركان جيش الاحتلال يدعو بشكل علني في رسالة إلى نتنياهو للذهاب إلى طاولة المفاوضات، بدلا من الإصرار على الجيش باحتلال مدينة غزة.
بعد أن تعهد نتنياهو بمواصلة السيطرة الكاملة على مدينة غزة، حتى لو وافقت "حماس" على اتفاق وقف إطلاق النار في اللحظة الأخيرة، مُحتميا بدعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطته، خرج رئيس الأركان إيال زامير، وقال علنا: "هناك صفقة مطروحة على الطاولة، هي مقترح ويتكوف المعدل، ويجب الموافقة عليها، لقد وفر الجيش الظروف لصفقة.. والقرار الآن لدى نتنياهو".
يدرك الجيش صعوبة تنفيذ هذه العملية بدون تعرض الأسرى للخطر، كما أن سكان مدينة غزة أظهروا عزما على عدم التجاوب مع مخططات التهجير إلى الجنوب، فضلا عن أسباب أخرى تتعلق بقدرات الجيش الإسرائيلي البشرية والمادية.
خلقت تصريحات زامير وموقف الجيش خلافا آخر مع اليمين الصهيوني بقيادة سموتريتش الذي هاجم الجيش، واتهمه بعدم التجاوب مع تعليمات المستوى السياسي الذي أمره بالحسم، مما جعل زامير يتهمه بعدم الفهم.
وهذه الخلافات قد تتسع وتجلب معها احتمال استقالة سموتريتش، أو على الأقل تدوير الزوايا في السياسة الداخلية الإسرائيلية، وقد كان موقف حماس المرن في التعاطي مع المقترحات على طاولة المفاوضات عاملا مهما في تفجير هذه الخلافات وتعقيدها.
وقد وجد نتنياهو نفسه في وضع حرج، فحاول خلق موقف أقرب إلى الموقف المشوه، حيث أوعز بالبدء بمفاوضات بشكل فوري بشروط مقبولة من إسرائيل، وأكد أن هزيمة حماس وإطلاق سراح الأسرى ليسا أمرين متعارضين، وهذا الموقف أقرب إلى إرضاء الأطراف الداخلية المتعارضة، منه إلى مسار إستراتيجي وعملي، وهو دلالة على فشل نتنياهو في هذه القضية.
إعلان
في ظل هذا التعنت من نتنياهو تستمر الأصوات من داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي في اتهام نتنياهو بالفشل بل وأكثر من الفشل إلى الاتهام بقيادة إسرائيل نحو الهاوية.
وفي هذا السياق، كتب رئيس الوزراء السابق إيهود باراك: "إن الوقت حان لقول الحقيقة بوضوح بشأن الاندفاع نحو العملية في غزة، والتي وصفها رئيس الأركان بأنها "فخ موت". وأن صور الدمار والقتل التي ستزداد في القطاع، ستؤدي إلى إدانة إسرائيل والحكم عليها بالعار العالمي".
اعترافات ماثيو ميلر
جاءت اعترافات المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر حول سلوك حكومة الاحتلال الإسرائيلي لتؤكد على فشل دولة الاحتلال في استمرار ترويج الرواية المضللة لها. فقد أكد ميلر أن نتنياهو هو المعطل الأساسي للتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار من خلال وضعه شروطا جديدة في كل مرة يتم الاقتراب فيها من صفقة وقف إطلاق النار.
كما أن ميلر أكد أن ما تقوم به دولة الاحتلال الإسرائيلي هو نمط متكرر، وأن الاحتلال الإسرائيلي كان يبحث في كل مرة عن تصعيب الأمر وإضافة شروط جديدة.
لقد كان ماثيو ميلر مسؤولا رفيعا في الإدارة الأميركية يدافع عن رواية الاحتلال الإسرائيلي من خلال موقعه الرسمي، وهو يعلم تماما كذب هذه الرواية وبعدها عن الصحة، واليوم هو يعترف بذلك ويقر بتواطؤ الإدارة الأميركية مع كذب الدعاية الإسرائيلية.
وهذه إشارة واضحة إلى ما يقوم به المسؤولون الحاليون في الإدارة الأميركية وعلى رأسهم الرئيس ترامب الذي تبنى مواقف نتنياهو بشكل كامل فيما يتعلق بالعملية العسكرية المزمعة في مدينة غزة.
إن تصريحات ميلر تشير إلى بداية فشل في صمود الغطاء الذي تقدمه الإدارة الأميركية والرواية الإسرائيلية لإجراءات الاحتلال في غزة والتي تعتبر جرائم حرب، وهذا يزيد من الغضب العالمي، ويضع دولة الاحتلال الإسرائيلي في وضع أصعب.
إعلان المجاعة من الأمم المتحدة
بالرغم من كونه متأخرا فإن إعلان الأمم المتحدة المجاعة في غزة بشكل رسمي، وأن المجاعة في غزة متعمدة وهي نتيجة لحظر الاحتلال الإسرائيلي دخول الغذاء والمواد الأساسية، هو ضربة أخرى لدولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تمنع دولة الاحتلال الإسرائيلي توفر الغذاء والإمدادات الطبية لسكان قطاع غزة، مما أدى لتفشي المجاعة، وقد بلغ عدد الضحايا بسبب سوء التغذية والجوع 263 شهيدا، بينهم 112 طفلا.
وقد حاول الاحتلال تضليل المجتمع الدولي عبر السماح بدخول كميات ضئيلة من المساعدات لا تصل إلى 10% من احتياجات قطاع غزة في الأوضاع العادية، كما خلق الاحتلال أوضاعا كارثية من خلال هندسة الفوضى، وتسهيل سرقة المساعدات عبر دعمه مجموعات من المليشيات، واستهدافه كل جهود تأمين المساعدات حتى الشعبية والعائلية منها.
إن إعلان الأمم المتحدة للمجاعة في غزة هو جرس إنذار آخر يستوجب خطوات عملية من كل الأطراف الدولية والإقليمية، فهو إعلان يشير إلى عدم إمكانية السكوت عن الوضع الحالي، ولهذا سارعت دولة الاحتلال إلى مهاجمة التقرير الأممي، وتقرير التصنيف المرحلي للأمن الغذائي واعتبرتهما "أكاذيب حماس"، ووصفت تقرير منظمة الصحة العالمية بأنه مفبرك ومصمم لملاءمة حملات حماس.
لا بد أن يلاقي إعلان الأمم المتحدة للمجاعة في غزة ردود فعل عملية من المؤسسات والدول، ومع أنه يشكل وصمة عار للاحتلال الإسرائيلي إلا أنه يحتاج إلى ضغوط وعقوبات كافية.
وبهذا يقود الاحتلال الإسرائيلي نفسه إلى فشل آخر؛ بسبب إجراءاته الإجرامية وتجويعه النساء والأطفال في غزة وتعريضه أكثر من مليون مواطن في مدينة غزة للتجويع.
واليوم يستمر الاحتلال الإسرائيلي في معاندة كل أصوات الضمير الإنساني، وهو الآن يسعى لإخفاء الحقيقة عبر قتل الصحفيين بدم بارد.
وقد استهدف بشكل خاص مراسلي ومصوري قناة الجزيرة الذين كان لهم دور وجهد كبير جدا في نقل الحقيقة والصورة التي لا يريد الاحتلال أن يراها العالم في غزة، وهذا أيضا جزء من تخبط وفشل الاحتلال، وتماديه في السلوك الإجرامي.
إعلان
تؤكد كل هذه الوقائع وخاصة اغتيال الصحفيين انكشاف الاحتلال على كافة المستويات أكثر من أي وقت مضى، والدلالة الأساسية لهذه الإخفاقات هي اقتراب الاحتلال أكثر من المحاسبة ودفع الثمن عن كل جرائمه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق