الغيطة الجبلية.. نبض الاحتفالات في قبائل جبالة بالمغرب - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الرباط- بين أحضان الطبيعة الخلابة في قرى قبائل جبالة بجبال الريف، تنبعث موسيقى الغيطة الجبلية -أو الغيظة كما يسميها السكان- بأصواتها المميزة التي تخترق صمت الجبال وتهز القلوب. إنها موسيقى تعتمد على آلة نفخية تقليدية تُعدّ من أهم عناصر الفرح في الأعراس والمواسم الجبلية.

الغيطة ليست مجرد آلة موسيقية، بل هي تراث حي يحمل روح الانتماء وذاكرة الأجداد، ولون من ألوان الفرح الذي لا يكتمل دونه أي موسم ديني أو مناسبة اجتماعية.

ويتميز هذا الفن بمزجه بين الأداء الجماعي المنسجم ومهارات العازفين الفردية في تطويع الآلات لإنتاج أنغام تعكس روح الجبل، فتأسر السامعين وتدعوهم للانغماس في أجواء الغناء والرقص وكأنهم يشاركون في طقس جماعي عريق.

لحظات الفرح الكبرى

تُعزف الموسيقى بآلات الغيطة والطبل والبندير (الدف)، وتحضر لإعلان لحظات الفرح الكبرى وطقوسها المتوارثة لأجيال، من حناء العروس إلى استقبال العروسين ثم رقصة التبوريدة الجماعية (رقص بالبنادق البارود)، حينها تغدو التجمعات ساحة حيوية من الغناء والزغاريد والمتعة.

يقول رئيس فرقة نجوم الفرح للغيطة الجبلية في تاونات، عزيز الزوهري، "الغيطة أساسية في الأعراس الجبلية، من دونها لا تكتمل الفرحة بالعروسين".

ورغم زحف الأنماط الموسيقية العصرية، لا تزال الغيطة تحظى بمكانة رمزية في الذاكرة الجماعية، وتُعتبر علامة هوية وثقافة لمجتمع لا يزال مصرا على الحفاظ على موروثه وذاكرته.

يوضح عزيز للجزيرة نت "عندما يكون العرس في قرية ما يأتي إليه سكان القرى المجاورة دون دعوة للاستمتاع بأنغام فرقة الغيطة، إنها بمثابة معنى للارتباط بالأرض والجبل وإشارة للهوية المشتركة".

وجبالة هم سكان المناطق الجبلية الواقعة بالجزء الغربي لسلسلة جبال الريف، وتتكون منطقة جبالة من أكثر من 40 قبيلة تفرعت عن مصمودة وصنهاجة والبرانس والقبائل العربية، تستوطن الريف الأوسط والغربي ومقدمة الريف.

إعلان

يعرف كتاب "معلمة تاريخ المغرب" الغيطة بأنها آلة موسيقية هوائية تحمل منفخا صغيرا ينفخ فيه فيؤدي الريح إلى أنبوب خشبي مخروطي الشكل، دقيق في أعلاه، طوله حوالي 30 سنتيمترا، يتسع بالتدريج إلى أن يبلغ عند طرفه الأسفل نحو عرض كف اليد، وبه ما بين 7 و10 ثقوب يحدث عقفها بالأصابع أصواتا موسيقية متفاوتة الدرجات.

ويعتمد استخدام آلة الغيطة على تقنية خاصة تتطلب تخزين كمية من الهواء داخل الفم، وأثناء تصريف الهواء في جوف الغيطة يتنفس النافخ عن طريق الفم معوضا بذلك الكمية المصرفة، وتلك عملية شاقة يتحول معها الفم بشدقيه إلى ما يشبه قربة هواء.

فرقة عزيز الزوهري للغيطة الجبلية في أحد المهرجانات الفنية (الجزيرة)

ألحان وشجون

ورغم استخدام 3 آلات في هذا التراث الجبلي، فإنه يحمل اسم آلة الغيطة كونها عنصرا رئيسيا وأساسيا فيه.

يتعلم التلميذ الغيطة على يد معلم، يرافقه في الحفلات والمناسبات إلى أن يتشرب الحرفة ويحفظ المقاطع والأصول والطقوس ثم ينطلق في مساره الخاص.

وحكاية عزيز الزوهري اتبعت هذا الطريق وبدأت عام 1977، كان عمره لا يتجاوز 13 سنة حين اشتعل في قلبه الشغف بهذه الموسيقى وبآلة النفخ تلك، كان يتسلل من عرس لآخر يراقب عازفي الغيطة ويتأمل حركاتهم وسكناتهم، لم يمنعه عقاب فقيه المسجد له حين كان يضبطه في الدرس يخفي آلته، فكانت أول مشاركة رسمية له في حفل زفاف الأميرة للا مريم عام 1986 لتصبح الغيطة بعد ذلك "جزءا من دمه"، وفق تعبيره.

يلقب عزيز بالمايسترو فهو من رواد هذا الفن الذين ساهموا في إخراجه من المحلية إلى باقي مناطق البلاد وخارجها، وحصل على عدة جوائز تقديرا لموهبته وجهوده منها جائزة الخلالة الذهبية التي يمنحها المجلس الوطني للموسيقى ووزارة الثقافة.

يصف الزوهري الغيطة الجبلية بأنها موسيقى تحمل ألحانا شجية وحنونة، توقظ في النفوس ذكريات الماضي، وحين تنطلق ألحانها في المواسم والأعراس تنهمر دموع النساء استحضارا لذكريات أحبتهم الراحلين.

ويؤكد الزوهري أن الغيطة عنصر أساسي في الأعراس، خاصة بالنسبة للنساء الكبيرات في السن اللواتي يحرصن على حضورها مهما كلف الأمر.

ففي طقوس ليلة الحناء، تبدأ الحفلة على أنغام أغان تراثية ترددها الفرقة ثم تعيد أداء لحنها بآلة الغيطة مرفوقة بالطبل مثل "أللا مد يدك مدو بالحناني تردوا العزيزة علي" ومعناها "سيدتي مدي يديك ورديها بالحناء أيتها العزيزة علي"، وأغنية "الحمامة فالدروج الحمامة فالدروج أنا جوجت بنتي ومعامن غانخرج" ومعناها الحمامة "في السلم زوجت ابنتي ومع من سأخرج"، وهي ألحان تعبر عن وجع الأمهات لفراق بناتهن، وتدفع الموسيقى العروس وأمها وأسرتها إلى البكاء.

تراث شفهي لا يتغير

يوضح عبد الواحد الشبيهي، رئيس جمعية المشاع لإحياء التراث الجبلي وفن التبوريدة بقرية المشاع في تاونات، أن الإيقاعات التي تعزفها فرق الغيطة تُتناقل بين الأجيال كما هي، دون أي تغيير يُذكر عبر الزمن، سواء في تاونات أو الشاون أو وزان أو تطوان. فهي فن متوارث ينتقل من المعلم إلى التلميذ، وتراث شفهي حافظ على أصالته، حيث ما زالت الأغاني والألحان تُؤدَّى كما كانت تُغنَّى منذ أجيال طويلة.

إعلان

ويضيف أن الغيطة ترافق جميع طقوس الأعراس خطوة بخطوة، حيث تُعزف موسيقى خاصة بكل لحظة من لحظاته: من دعوة الناس للتجمع في بيت العرس، إلى ركوب العروس على الحصان للانتقال إلى بيت الزوجية، ثم استقبالها في منزلها الجديد، وصولًا إلى رقصة البارود التي تُلهب الحماسة في الساحات. وحتى عند انتهاء الاحتفال، تُؤدَّى ألحان خاصة تتماشى مع ختام هذه المناسبة الاجتماعية الجماعية، لتكتمل دورة الفرح بإيقاعات متوارثة لا تتغير.

يوضح الشبيهي أن الفرق الموسيقية التي تقدم فن الغيطة تتكون عادةً من 5 إلى 7 أعضاء: هم اثنان أو ثلاثة من عازفي الغيطة، واثنان من ضاربي الطبل، بالإضافة إلى واحد أو اثنين يقرعان الدف.

ويضيف أنه رغم إدخال بعض التغييرات البسيطة على صناعة الآلات الموسيقية، مثل استبدال أنواع من البلاستيك بجلد الطبل والدف، فإن الإيقاعات نفسها بقيت وفية لجذورها، محافظةً على رونقها القديم ودفئها الذي يبعث الحنين في النفوس.

كما يشير الشبيهي إلى الجهود المبذولة للحفاظ على هذا الموروث، ومن أبرزها ما تقوم به جمعية قرية المشاع بتاونات عبر المهرجان السنوي لفنون التراث الجبلي، الذي يجمع عشاق هذا الفن من مختلف المناطق. ويهدف المهرجان إلى صون الغيطة الجبلية وضمان استمرارها، حتى تظل حاضرة في وجدان الأجيال الجديدة ونابضة في ذاكرتهم الثقافية.

يرى الفنان الزوهري أن العزف على الغيطة ليس مجرد مهارة موسيقية، بل يتطلب شغفًا حقيقيًا وحفظًا دقيقًا للألحان المميزة لكل مرحلة من مراحل العرس أو أي مناسبة اجتماعية. كما يحتاج العازف إلى قوة بدنية وقدرة عالية على التحكم في النفس نظرًا لاعتماد العزف بشكل كامل على النفخ.

ويؤكد أن شغفه وشغف غيره من فناني الغيطة كان له دور كبير في الحفاظ على هذا الفن من الاندثار. فرغم الظروف الاجتماعية القاسية ومنافسة الموسيقى العصرية، ظل هؤلاء الفنانون متمسكين بالغيطة باعتبارها إرثًا ثمينًا وأمانة حملوها عن الأجداد. كما يسعون جاهدين إلى نشر هذا الفن في مختلف مناطق البلاد والتعريف به على نطاق واسع، ليبقى حاضرًا في الذاكرة الثقافية المغربية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق