ذهب بعض العرب في العقود الماضية، ونخبة متحالفة مع السلطة، لإعادة توصيف الصراع العربي الصهيوني على أنه نزاع بين "دولة" إسرائيل والشعب الفلسطيني على الضفة الغربية وغزة، واتهم البعض الشعب الفلسطيني المظلوم بأنه متطرف ومقاومته حالة عبثية تسببت في زعزعة الاستقرار والاستثمار مع إسرائيل الديمقراطية والمتحضرة والمحبة للسلام.
كان ذلك نقلة نوعية، من مفهوم الأمة العربية إلى مفهوم الشعب القائم على حدود سايكس بيكو الاستعمارية. كان ذلك انتصارا للأنا على مفهوم نحن الجماعة والأمة. كان ذلك محاولة للتخلص من العبء والمسؤولية التاريخية والقومية والدينية، باتهام الفلسطيني وتبرئة الاحتلال الإسرائيلي من الدم المسفوك.
وهم الهروب
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تعد المعركة تقليدية في ظل ما آلت إليه الأمور الإنسانية في قطاع غزة؛ فالاحتلال كسر كل المعايير الأخلاقية والقانونية الناظمة للصراعات والحروب البشرية في عهد الحداثة وحقوق الإنسان.
إسرائيل اليوم تقتل بنية التطهير العرقي والإبادة الجماعية، فأحدث تحقيق صدر عن صحيفة غارديان البريطانية ومجلة 972 الإسرائيلية، كشف أن معدل قتل المدنيين بغزة بلغ 83%، استنادا إلى بيانات عسكرية إسرائيلية سرية.
لم يتوقف الأمر على القتل بالسلاح أو عبر القصف العشوائي بالطائرات، فإسرائيل توحشت في تجويع المدنيين والأطفال، حتى باتت مئات المنظمات الدولية والأممية تناشد وتطالب الدول بوقف الإبادة وسياسة التجويع التي فاقت بشاعتها قدرة العقل على التخيل، فما يجري أفعال شنيعة ترتكبها كائنات تنتمي إلى البشرية.
هذا المشهد المفزع إنسانيا، لم يكن ليقع لولا أن إسرائيل أمِنت العقوبة والمحاسبة على سلوكها المتوحش الملوث بالانحرافات السياسية المغمسة بالخرافات والأساطير اللاهوتية.
إسرائيل ككيان استعماري، قامت منذ إنشائها على التطهير العرقي 1948، بتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني من أرضه، وبتدمير أكثر من 500 بلدة وقرية فلسطينية، وتغيير ملامح العديد من المدن الفلسطينية، لمحو الأثر الحضري والحضاري للشعب الفلسطيني.
إعلان
حصل ذلك بسرعة كبيرة، وفي غفلة من الرأي العام الدولي المشوه معرفيا، نتيجة الدعاية الصهيونية، واستثمارها في رواية الضحية (الهولوكوست)، وفي ظل غياب الصورة والمعلومات، المحتكَرة والمتحكم بها من مؤسسات وأنظمة راعية للكيان الصهيوني الناشئ على أرض فلسطين.
اليوم يشاهد العالم ويتابع ما يجري في قطاع غزة لحظة بلحظة وعلى الهواء مباشرة، ما دفع الشعوب وخاصة الغربية منها، للتعبير عن غضبها وسخطها على إسرائيل، بعد أن اكتشفت حقيقتها الاستعمارية المتوحشة.
في اتجاه معاكس، ما زالت بعض الدول العربية بأنظمتها تقف شاهدة على هذه الجريمة البشعة دون حراك يعترض طريقها، لحقن الدماء النازفة التي تحرق قلب الإنسانية.
انفصام قومي، وانزواء قُطري، ظنه البعض كفيلا بتوفير الأمن والحماية من إسرائيل المتوحشة.
شكل من أشكال الهروب، استمر طويلا، ومر عليه 22 شهرا من الذبح والتجويع للفلسطينيين، ليكتشف القوم متأخرين أن ما يجري في فلسطين من ذبح وتنكيل، طريق معبد بالجماجم للعبور إلى المنطقة العربية، وقربان على مذبح إسرائيل الكبرى التي أعلن عنها ملك إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو باعتبار نفسه مبعوثا لـ "مهمة روحية تاريخية لأجل إسرائيل الكبرى"، التي تتمدد بين النيل والفرات.
إكراهات الواقع
قادة الاحتلال خرجوا من عباءة التصريحات بشأن إسرائيل الكبرى إلى مرحلة التنفيذ على أرض الواقع، بل جاءت تصريحاتهم مشفوعة بخطوات استباقية.
فإسرائيل تعمل بشكل حثيث على احتلال قطاع غزة وإبادة سكانه قتلا وتجويعا أو تهجيرهم، وتعمل على قدم وساق لضم الضفة الغربية وخلق بيئة طاردة لسكانها.
كما أفرغت إسرائيل جنوب لبنان من أغلب سكانه بتدمير قُراه ومنع إعمارها للحيلولة دون عودة العائلات إلى بيوتها، وتموضعت في خمس نقاط محتلة يمكن أن تتطور لاحقا إلى احتلال كامل جنوب نهر الليطاني، في ظل العمل على نزع سلاح حزب الله.
الأكثر فجاجة في تنفيذ مخططات إسرائيل الكبرى ما يجري في سوريا، حيث التمدد في محافظة القنيطرة وعلى سفوح جبل الشيخ بعد تدمير القدرات العسكرية للدولة السورية، والتدخل المباشر لإنشاء كيان درزي في محافظة السويداء، ليكون نقطة ارتكاز للسيطرة المتدحرجة على جنوب سوريا حتى دمشق التي اعتبرها وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش حدودا لمدينة القدس.
وإذا كان الأمر ممكنا وبهذه السهولة غير المتوقعة إسرائيليا، فلماذا لا تتمدد إسرائيل في الأراضي الأردنية على سبيل المثال، باحتلالها المرتفعات الشرقية لوادي الأردن التي تطل على الضفة الغربية، بذرائع أمنية لحماية المستوطنات في الأغوار الفلسطينية، أو بالزعم أن الأردن جزء من الأرض الموعودة، كما جاء على لسان وزير المالية سموترتيش، أو عبر الادعاء بأن النبي موسى وقف على جبل نيبو في محافظة مادبا للإطلالة على القدس.
وإن كان الأمر كذلك، ألا يمكن أن ينسحب في الوقت المناسب على سيناء المصرية، المتاخمة لقطاع غزة الذي يشهد مذبحة بشرية على أعين الجميع وعجزهم المتوهم؟
الدول العربية استثمرت سنوات وعقودا في سياسة سحب الذرائع بعدم استفزاز إسرائيل، وباسترضائها عبر السكوت عما يجري في فلسطين أو التجاهل وعدم الاكتراث، حتى الإغداق على إسرائيل بالتطبيع السياسي والتعاون الأمني والشراكات الاقتصادية، لإبقاء حدود المشكلة والأزمة داخل حدود فلسطين التاريخية، ولاتقاء شر إسرائيل.
إعلان
هذه السياسة لم تُفلح في كبح الأطماع الإسرائيلية في الأراضي العربية، بل حفزتها وشجعتها على التقدم إلى الأمام بضرب معالم القوة في المنطقة العربية من العراق إلى سوريا، واحتلال أراضٍ جديدة في سوريا، وإشهارها النية في التوسع لإقامة إسرائيل الكبرى، في عهد الرئيس الأميركي ترامب الذي أشار في بداية ولايته إلى مساحة إسرائيل الصغيرة، في إشارة إلى دعمه حق إسرائيل في التوسع والسيطرة.
هذا الواقع المتطور بسرعة، من المفترض أن يدفع الدول العربية، لإعادة النظر في سياسة الاسترضاء وسحب الذرائع التي لم ولن تفلح في حمايتها من الاحتلال الإسرائيلي.
فالتطبيع والهروب من المسؤولية التاريخية والقومية والدينية، مجرد مخدر سياسي سرعان ما يذهب مفعوله، ولا يُغني عن مواجهة المرض ومعالجته بالكي إن تطلب الأمر.
وأحيانا الهجوم أقل تكلفة من الدفاع ومن الهروب والانسحاب، والمبادرة مع عدو متربص أكثر جدوى من البقاء في مربع ردة الفعل والعيش في الأزمات المتلاحقة التي يصنعها الاحتلال، فجزء من تفسير غطرسة إسرائيل وتغولها نابع من سلبية مواقف الدول العربية وعدم ردها القوي على انتهاكات إسرائيل وعدوانها.
غزة والأمن القومي العربي
أحد أهم أسباب فقدان إسرائيل شهيتها الاستعمارية في المنطقة العربية خلال العقود الماضية، تجسد في صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال، فالفلسطيني لم يستكن ولم يستسلم، وظل يقاوم في موجات متتابعة ما شكل جدار دفاعٍ حيويٍ عن فلسطين، وعن الأمن القومي العربي.
فانشغال إسرائيل في غزة، حال دون أطماعها في سيناء ومصر، وانشغالها في الضفة الغربية حال دون أطماعها في الأردن، وانشغالها بحزب الله حال دون استمرار احتلالها جنوب لبنان.
والعكس صحيح، فعندما تقدمت إسرائيل في ضرب المقاومة الفلسطينية وحاصرت الشعب الفلسطيني حتى الموت، انفتحت شهيتها فورا للتمدد في لبنان، وسوريا، وأعلن ملكها المتهم بجرائم الحرب نتنياهو أنه في مهمة روحية تاريخية لأجل إسرائيل الكبرى.
الدول العربية أمامها فرصة سانحة باستثمارها في الشعب الفلسطيني، عبر دعم صموده وتثبيته في أرضه، ورفع الحصار عن غزة وفقا لقرارات قمة الرياض 2023، وذلك لإعادة بناء جدار الحماية للقضية الفلسطينية وللأمن القومي العربي المهدد.
آخذين بعين الاعتبار فشل الاعتماد على المنظومة الدولية المتمثلة في مجلس الأمن الدولي، وفي ظل تحييد مفاعيل القانون الدولي الذي تجاوزته إسرائيل بدعم أميركي مكشوف.
ولنا في موقف واشنطن من محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية عبرة، حيث هاجمتهما واشنطن، وفرضت عقوبات على الأخيرة؛ لأنها أصدرت مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو المتهم بارتكاب جرائم حرب شنيعة في غزة.
ما يعني أن التعويل على الذات وعلى أوراق الضغط العربية المتعددة، هو الأصوب للجم التطرف الإسرائيلي في ظل غياب المفاعيل الدولية الرادعة لإسرائيل.
الدول العربية معنية بالتداعى لدراسة الموقف، ولاعتماد سياسات تمنع التهجير أو الإبادة والتجويع في غزة، وتحول دون فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة والقطاع، وتمنع إسرائيل من التمدد الاستعماري في سوريا، ولبنان والأراضي العربية تحت عنوان إسرائيل الكبرى.
الدول العربية تستطيع أن ترفع البطاقة الصفراء والحمراء في وجه إسرائيل بما تملك من أوراق سياسية واقتصادية وأمنية رادعة.
الأمر يحتاج تجاوز التردد والخروج عن النمط السلبي في المواقف، والانتقال إلى مربع الأفعال بتدفيع الاحتلال أثمانا بلغة المصالح، وهي اللغة التي يفهمها العالم وتفهمها إسرائيل، وإلا فإن المنطقة مقبلة على سيناريوهات سيئة، ستدفّع العرب أثمانا باهظة تحت عنوان إسرائيل الكبرى، وإعادة رسم الشرق الأوسط وفق معايير إسرائيلية أميركية أيديولوجية باتت تأخذ مسارها في الجسد العربي.
إعلان
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق