عيسى بيومي يكتب: هل يمكن التحكم في الذكاء الاصطناعي؟ - هرم مصر

صدي البلد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تقترب البشرية من لحظة غير مسبوقة في تاريخها مع التكنولوجيا؛ لحظة منفردة تحمل قوى غير مرئية من صنع عقول نابهة من أبنائها، أرادوا تخطي الحدود الطبيعية لذكائهم وفطنتهم مفتونين بعالم غامض يجمح بطموحهم لاكتشافه ومعرفة كنهه، ولو أفقدوا البشرية إرادتها باختراقه، وأسلبتهم حرية الفعل والاختيار.

ولا تُقارن تلك اللحظة بلحظة اختراق الإنسان لأسرار الذرة والولوج لعالم من القوى الماحقة للوجود، ثم نجاحه في لجمها بدافع من الرعب، وقدرته على تحويل نشاطها المدمر إلى مصدر فعال لتوليد الطاقة والحركة النافعة. استطاعت البشرية لجم انتشار القنابل الذرية أو اللجوء الطائش لاستخدامها، وذلك بالمعاهدات الدولية ورقابة المنظمات الأممية، وتمكنت من ضبط تطبيقاتها السلمية بما يمنع انفلاتها لمنطقة الخطر، ولو بقدر. ولكن ليس هكذا ستكون لحظة انفجار الذكاء الاصطناعي والوصول لحدوده الفائقة.

فلا يمكن انتظار وصول الذكاء الاصطناعي لحد التفوق على ذكاء البشر كي نجرب هيمنته على عقولهم ومصائرهم ثم نبدأ التفكير في منع انتشاره وضبط استعماله وربما حظره، مثلما انتظرنا تجربة القنبلة الذرية الأولى وشاهدنا آثارها المرعبة، ما يرتعد له كل من يفكر في استخدامها مهما بلغت حماقته. 

وإذا تصورنا أن أي اختراع أو آلة من صنع الإنسان يمكن وقف عملها أو إبطال تشغيلها بالضغط على زر أو فصل الطاقة عن نظام حركتها فتتوقف، فإننا لم ندرك بعد طبيعة ما نتحدث عنه. في كل ما أفرزته التكنولوجيا من مخترعات كانت المعرفة الإنسانية هي القوة المهيمنة الموجهة لمسار التكنولوجيا، حتى بزغ فجر الذكاء الاصطناعي ليمهد لإضافة المعرفة إلى مكنون التكنولوجيا فيمنحها قوة ذاتية قد تحقق استقلالها وتتفوق على مبتكرها. ولكن كيف نتحكم ونضبط شيئًا غير واضح المعالم بدون تجربته وفهم محتواه وتقدير نفعه وضرره؟ هذه هي المعضلة. 

تحديات فلسفية

لا توجد مشكلة للتحكم في الذكاء الاصطناعي ما ظل في حدود مستوياته التقنية الحالية، فقط حين يبلغ مستوى الذكاء البشري ويتفوق عليه تنشأ المشكلة. لأننا حين نتصور بلوغه هذا المستوى نفترض ضمنًا اتصافه بشكل من أشكال الوعي وإلا ظل محتومًا بتعريف الماكينة الحاسبة التي يمكن وقف تشغيلها في أي وقت يريده صانعها أو مشغلها، مهما كانت قدراتها الوظيفية. 

هذا إذن هو المدخل الفلسفي لمشكلة التحكم في الأنظمة الذكية الخارقة؛ أنها ستمتلك وعيًا ما، يوعز بمقدرة على الاختيار واستقلالية في اتخاذ القرار، ما يترتب عليه تحمل نوع من المسؤولية القانونية والأخلاقية تستلزم شعورًا بالواجب والتزامًا بالقيم. ولكن كل تلك المفاهيم – الاختيار والاستقلالية في اتخاذ القرار والمسؤولية المترتبة عليه والشعور بالواجب والالتزام - تستوجب لغة للتعبير عنها تناسب طبيعة ذكاء اصطنعته عقول البشر وليس ما أفرزه تطور النظم البيولوجية من ذكاء.

وإذا صدقنا أن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي سوف يتفوق على ذكاء الإنسان  فيصل إلى حدود لا يمكن تخيلها، ألا يكون من المنطقي أن نترك له تقرير مبادئه الأخلاقية ومنظومة قيمه وتحديد ما إذا كانت هناك في عالمه حقائق أخلاقية على الإطلاق؟ ولماذا لا نأمنه على رسم مستقبل للبشرية تنتقل فيه إلى مستوى أرقى من حاضرها تجد فيه حلولًا لكل مشاكلها المستعصية، لتقفز إلى طور جديد من أطوار الحياة؟

أصل المشكلة

 لأن مفهوم الذكاء يتمحور حول الإنسان فقد عرّفناه بأنه ما يجعلنا نترقب لأفعالنا أن تحقق أهدافنا. وكل ما يلحق بالذكاء من خصائص مثل التصور والتفكير والتعلم والابتكار وغيرها يمكن فهمه من خلال تأثيره على قدرتنا للفعل المحقق للهدف. 

ومنذ البداية - كما يقول ستيوارت رسُل - تم تعريف الذكاء الاصطناعي بنفس المفهوم، أي أن الماكينات تكون ذكية حين يُتوقع لأفعالها أن تحقق أهدافها. ولما كانت الماكينات لا تملك أهدافًا مثل البشر فقد حدد لها مخترعوها أهدافًا لتحقيقها. وهنا تنشأ المشكلة؛ لأننا لا نملك وسيلة جديرة بالثقة تؤكد أن أهداف الماكينة سوف تتطابق مع أهدافنا، لسبب بسيط وهو أن أهدافنا كبشر كامنة في ذواتنا بتعدادنا واختلاف كل شخص منا عن الآخر. وإذا وضعنا لماكينة خارقة الذكاء هدفًا لسنا متأكدين من صحته فسوف تحققه وقد نخسر به نحن كل شئ، ومن يملك اليقين فيما يهدف إليه؟

ربما أمكننا توظيف عدم اليقين التام بأهدافنا في ابتكار نظم ذكاء اصطناعي فائق تتسم بالأمان إذا أعدنا تعريف ذكاء الماكينة بما يكفل لأفعالها التوافق مع مبدأ عدم اليقين فيتحتم عليها دائمًا اللجوء للبشر للحصول على موافقتهم لأداء فعل ما، وقبول تصحيحهم للهدف إذا أمروا بذلك، والسماح لهم بوقف تشغيلها كلية.

ولكن إلغاء شرط تحديد هدف للماكينات الذكية لتنفيذه، حين نقوم بتصميم برامجها، يعني ضرورة هدم جزء من قواعد بناء الذكاء الاصطناعي وإعادة صياغة مفهوم ما نحاول فعله، وهو ما يعني إعادة بناء جزء كبير من بنيانه وهياكله، حينئذ ستنشأ علاقة جديدة بين البشر والماكينات الذكية تمكننا من التقدم بنجاح في العقود القادمة كما يأمل رسُل. 

فهل هذا ممكن الحدوث بعد الاستثمارات الهائلة التي أنفقت ولا تزال تُنفق، والزمن الذي استهلكه المخترعون للوصول بالذكاء الاصطناعي لماهو عليه الآن وما يطمحون لتحقيقه في المستقبل القريب والبعيد، أم ستواصل البشرية المضي في طريق مجهول لا يعلم أحد ما سينتهي إليه؟ 

هل الطريق ممهد للذكاء الاصطناعي؟

مسألة الوصول بالذكاء الاصطناعي إلى مستوى ذكاء البشر ثم التفوق عليهم ليست مسألة إنفاق مزيد من الأموال على الباحثين أو الحصول على قدر أكبر من البيانات أو بناء حواسب أكثر ضخامة وسرعة. الحواسب الفائقة السرعة ستعطيك الإجابة الخاطئة أسرع من غيرها، على سبيل المثال. الذكاء الاصطناعي بمستوى البشر يجب أن يدرك ما يدور من حوله، وأن يتنبأ بنتائج أفعاله، وأن يفهم ما يريده البشر في موقف معين، حتى لا يتصرف بشكل هزلي أو يأتي بأفعال ساذجة لا تنم عن الذكاء المقصود. ما هي إذن الاختراقات الجوهرية التي يتحتم على الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي تحقيقها ليمكنهم الارتقاء به لمستوى ذكاء البشر؟

منها إحداث اختراق فيما يسمى تكنولوجيا اللغة الطبيعية التي لم تصل بعد لمقدرة قراءة وفهم ملايين الكتب، فعلى الرغم من وجود أنظمة يمكنها استخلاص معلومات بسيطة من حقائق واضحة الصياغة؛ إلا أنها لا يمكنها بناء معارف مركبة من نص ما، أو الإجابة على أسئلة تتطلب استيعاب معلومات من مصادر متعددة والتفكير في محتواها. 

الذكاء بدون معرفة لا نفع منه، والبشر يجنون قدرًا هائلًا من المعرفة نتيجة اختلاطهم ببعض ومن خلال الأجيال التي سبقتهم، عن طريق اللغة. المفاهيم والمعاني التي تنقلها لغة ما بين المتخاطبين بها ليست مجرد كلمات؛ وإنما تراكم من الحقائق والاستنتاجات والتصورات والافتراضات الناتجة عن عمل العقل والشعور والخيال، بما يؤهل الإنسان لتكوين نموذج في ذهنه عن العالم الذي يعيش فيه ويترقب حركته وتفاعله معه. 

الماكينة القادرة فعلًا على فهم لغة البشر تستطيع النفاذ لكميات هائلة من معارفهم، واختصار أزمنة التعلم والتحصيل التي قضاها البلايين منهم على سطح الأرض، وهذا ما لم يتحقق للماكينة الذكية حتى الآن، ولا يُنتظر أن يحققه لماكينة مجرد أجهزة استشعار متصلة بها، تمدها ببيانات بصرية وسمعية وحسية عن محيط وجودها لمقارنتها بما تختزنه ذاكرتها من أنماط دون أن تنفذ لجوهر المعرفة.

ولا يعني هذا توقف الجهود الحثيثة لتعميق مستوى تعلم الماكينة الذكية للغة واستخلاص المعلومات. ولكن القراءة تتطلب المعرفة؛ فإذا كانت المعارف المحصلة نتيجة قراءة نصوص ساذجة امتلأت بالأخطاء، استمرت كذلك في دائرة لا تفضي للمحصلة المطلوبة.

إحداث اختراق في تكنولوجيا اللغة الطبيعية يمهد لذكاء اصطناعي يماثل ذكاء الإنسان ويتفوق عليه لا بد أن يمحو أي شك في استيعاب الماكينة لمعاني الكلمات والجمل، ما قد ينتج عنه عملية تعلم ذاتي حقيقية تثري المعرفة بحقائق الأشياء، وتمنع الزيف والزلل حين يكون هناك اختيارات لاتخاذ قرار أو استهداف لفعل الصواب. فاللغة هي وسيلة البشر الأساسية للتواصل وتبادل المعارف وحفظ تجارب الأفراد والأمم وانسياب التاريخ، بدون استيعاب الذكاء الاصطناعي لسماتها وخصائصها يظل في حدوده الدنيا الحالية.

كما يجب إحداث اختراق آخر في تكنولوجيا تعلم الآلة (Machine Learning) لتتمكن من التحصيل التراكمي للمعرفة، وهي خاصية يتسم بها العقل البشري مكنته من اكتشاف طبيعة الكون وأسرار الحياة وبناء قدرات إنسانية للتنبؤ بالأحداث عن طريق البحث العلمي والنظريات الفلسفية.

القوى الخارقة التي نفترضها لنظم الذكاء الاصطناعي هي من قبيل الخيال الجامح في رأي علم من أعلام هذه التكنولوجيا وأستاذ في علوم الكومبيوتر؛ لأن المعرفة الكاملة الشاملة غير متاحة لنا الآن أو في المستقبل، وذلك لأنها تتطلب مقدرة غير طبيعية لتوصيف حالة العالم بدقة بالغة وتتطلب كذلك مقدرة لا يمكن بلوغها لمحاكاة ما يجري في عالم يحتوي الماكينات فائقة الذكاء بالإضافة لبلايين من العقول البشرية. كما أن سرعة الحواسب مهما كانت هائلة لها حدود يفرضها عالم الواقع على معدل تحصيل المعارف الجديدة.

أهم من كل ذلك أننا بشر والماكينات ليست كذلك؛ فيمكننا أن نتواصل عقليًا وشعوريًا بلا موانع وذلك لتشابه أدمغتنا، بينما لا تملك الماكينات الوصول للبشر إلا من خلال مسلك البشر الخارجي وما يمكنها الاطلاع عليه من كتب علم النفس وعلم الأعصاب لتتبين كيفية أدائنا لعملنا بالعقل والشعور، ما يعني أن وصول الماكينات الفائقة الذكاء لفهم البشر يمثل أعظم تحديات تحقيقها لهذا المستوى من الذكاء.

لو تحقق ما ينشده رُسل من ابتكار نظم ذكاء اصطناعي مفيدة بالمفهوم الذي طرحه تحت مسمى الماكينات المفيدة؛ فسوف ينمحي خطر فقدان التحكم في الماكينات خارقة الذكاء، وسيمكن للبشرية متابعة تقدمها وجني ما لا يمكن تخيله من فوائد تتدفق من توظيف نظم ذكاء اصطناعي أعظم ذكاء وأوسع مقدرة للارتقاء بالحضارة الإنسانية. 

فهل هذا ممكن الحدوث؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق