يمثل التمييز بين التحقيق الجنائي والمحاكمة أحد أهم التقسيمات البنيوية في أنظمة العدالة الجنائية المعاصرة؛ فهو حد فاصل ذو تبعات قانونية وإجرائية وحقوقية عميقة تتجاوز بكثير مقتضيات الملاءمة الإدارية.
هذا التقابل بين مرحلة تحقيق سرية تكرس لجمع الأدلة، ومحاكمة علنية قائمة على الخصومة، يشكل الأساس الذي تنهض عليه ضمانات المحاكمة العادلة.
غير أن هذا الحد يتعرض لتآكل متزايد بفعل ممارسة بث إجراءات التحقيق، وهي ظاهرة تحول ما ينبغي أن يبقى عملا قضائيا سريا إلى استعراض علني، بما يخلف ضررا لا رجعة فيه بجملة الضمانات الجوهرية للمحاكمة العادلة المعترف بها في مختلف الأطر القانونية الدولية.
سرية التحقيقات الجنائية كضرورة قانونية
تهدف التحقيقات الجنائية ابتداء إلى التحقق مما إذا كانت الأدلة كافية للادعاء، وهي وظيفة تقتضي ضمانات إجرائية مغايرة لتلك اللازمة في مرحلة المحاكمة، وتشمل هذه المرحلة جمع إفادات الشهود، وتأمين الأدلة المادية، والاستعانة بالخبرة الفنية، واتخاذ قرارات بشأن التدابير القسرية كالتوقيف أو التفتيش والمصادرة.
وتقر المادة 14 (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهذا التمييز، إذ تجيز استبعاد الجمهور بالقدر الضروري حيثما تخلّ العلنية بمصلحة العدالة، معترفة بأن مرحلة التحقيق تستلزم ضمانات مختلفة، وأن السرية فيها شرط أصيل لصون نزاهة الإجراءات.
وتؤسس المبادئ التوجيهية الدولية لثلاثة مبررات رئيسة لسرية التحقيقات، يعكس كل منها بعدا حاسما في فاعلية منظومة العدالة:
أولا، حماية سلامة الأدلة، بما يحول دون تكييف الشهادات بعد الاطلاع الانتقائي على المعلومات، ويمنع تنسيق روايات المشتبه بهم أو العبث بالأدلة، ويحافظ على مصداقية عملية الاستقصاء. ثانيا، حماية المشاركين، عبر وقاية الشهود والضحايا وأعضاء فرق التحقيق من التدخل والانتقام والترهيب، بما يضمن سلامتهم واستمرار قابليتهم للتعاون مع السلطات القضائية. ثالثا، وهو الأهم، صون قرينة البراءة، من خلال الحيلولة دون كشف مبكر قد يؤثر في القضاة أو المحلفين المحتملين قبل أي حكم قضائي بالإدانة.إعلان
وتشدد إرشادات التحقيق في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أن السرية "ضرورية لفاعلية عملية التحقيق في حالات سوء السلوك المزعوم"، وتوسع نطاق هذا الالتزام ليشمل جميع فئات العاملين والمتعاونين، بمن في ذلك المحققون والإدارة والموظفون وغير الموظفين.
ويعكس هذا التصور الشامل إدراكا أن نزاهة التحقيق رهينة بالحفاظ على حدود تدفق المعلومات عبر البنية المؤسسية برمتها، لا على مستوى الفاعلين الأفراد فحسب.
علنية المحاكمة كضمانة ديمقراطية
على النقيض من طور التحقيق السري، تعنى المحاكمات بالحسم في الإدانة أو البراءة على أساس لوائح الاتهام المرفوعة بعد اكتمال التحقيق وبصورة منفصلة عنه، وفق مبادئ العلنية وتكافؤ الخصوم.
ويعد الطابع العلني ركنا أصيلا في الحق في محاكمة عادلة؛ إذ تنص المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على أن تكون الجلسات علنية ما لم تطبق استثناءات محددة بدقة.
وتنهض العلنية بوظائف ديمقراطية أساسية تضمن مشروعية الحوكمة: إخضاع الإجراءات القضائية للتدقيق العام، ورفع جودة القرارات بفعل الرقابة المجتمعية على عملية صنعها، وتعزيز ثقة الجمهور في النتائج عبر جلسات مفتوحة.
وترتكز مرحلة المحاكمة على مبدأ المساواة بين الخصوم، فيخضع الدليل فيها للجدل والاختبار من جانب الادعاء والدفاع، ويحافظ القضاة على الحياد بين الأطراف، وتصدر الأحكام معللة في جلسات علنية.
وهذا يختلف جوهريا عن طور التحقيق الذي تتدفق فيه المعلومات من الخاضعين له إلى السلطات في إطار من السرية، دون الضمانات الكاملة للخصومة التي تميز إجراءات المحاكمة.
حين تتحول التحقيقات إلى مشهد استعراضي
يشكل تصوير أو بث جلسات التحقيق انتهاكا لضمانات المحاكمة العادلة المعترف بها دوليا، ويخلف ضررا لا يمكن تداركه، وقد يفضي إلى إبطال الإجراءات برمتها، وقد قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مرارا بأن التصوير العلني المبكر للمشتبه بهم بما يوحي بالذنب يخالف قرينة البراءة المكرسة في المادة 6 (2) من الاتفاقية الأوروبية.
وفي قضية تورييف ضد روسيا، رأت المحكمة انتهاكا حين وصف نائب المدعي العام مشتبها به علنا بأنه "قاتل" قبل إدانته، مؤكدة أن مثل هذه التصريحات "تشجع الجمهور على الاعتقاد بالذنب وتصدر حكما مسبقا على التقييم القضائي للوقائع".
ويفاقم بث أعمال التحقيق هذه المخاطر عبر إظهار المشتبه بهم وهم يجيبون عن أسئلة مدانة ظاهريا، بما يهيئ الرأي العام وصانعي القرار المحتملين لافتراض الذنب قبل أي حكم قضائي.
ويمثل حكم المحكمة العليا الأميركية في قضية ريدو ضد لويزيانا سابقة دامغة على الضرر غير القابل للإصلاح الناجم عن بث الاعترافات أو إجراءات التحقيق؛ إذ قررت المحكمة أن بث اعتراف مصور يشكل "محاكمة" للمتهم، وأن ما تلا ذلك من إجراءات قضائية لم يكن سوى "شكليات خاوية".
وقد أذيع الاعتراف ثلاث مرات وشاهده 106 آلاف شخص في أبرشية يبلغ سكانها 150 ألف نسمة، ما حمل المحكمة على نقض الإدانة دون الحاجة إلى مراجعة محاضر الجلسات التمهيدية، مؤكدة أن "ذلك المشهد كان، لعشرات الآلاف ممن شاهدوه وسمعوه، محاكمة فعلية لريدو"، وأن أي إجراءات لاحقة تختزل إلى شكل بلا مضمون قضائي ذي معنى.
إعلان
كما يحظر توجيه الاتحاد الأوروبي رقم 2016/343 بشأن قرينة البراءة صراحة تقديم المشتبه بهم "على أنهم مذنبون من خلال استخدام تدابير التقييد الجسدي"، ويلزم الدول "بالامتناع عن الإدلاء بتصريحات علنية تشير إلى المشتبه به أو المتهم على أنه مذنب".
ويصطدم بث إجراءات التحقيق بكلا المعيارين معا، منتجا انتهاكات مركبة تتجاوز الوقائع الفردية لتقوض البنية الضامنة للمحاكمة العادلة.
ولا تجدي التدابير التصحيحية الإجرائية اللاحقة في جبر هذا الضرر؛ إذ إن علانية محتوى التحقيق، متى وقعت، تلحق بقرينة البراءة مساسا لا يمكن محوه بالكامل مهما تكرست التعليمات القضائية.
العواقب النظامية والإخفاقات المؤسسية
يقوض بث أعمال التحقيق نزاهة منظومة العدالة الجنائية عبر سلسلة من الإخفاقات المتتابعة، ويحدث "تلويث الشهود" حين يطلع شهود محتملون على أدلة مجتزأة فيعدلون رواياتهم، فتضعف مصداقية الشهادات، وقد تستبعد أدلة حاسمة من المحاكمة.
كما يتيح البث للمشتبه بهم والمتواطئين تنسيق الردود أو إتلاف الأدلة، بما ينال من فاعلية التحقيق ويفتح منافذ للإفلات من المساءلة. ويغدو من حق الدفاع، بصورة مشروعة، الطعن في الأدلة المشوهة، أو طلب إعادة التحقيق برمته، فتنشأ تعقيدات إجرائية قد تعصف بإمكان المقاضاة أصلا، بصرف النظر عن الإدانة أو البراءة.
إن إرشادات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب خدمات الرقابة الداخلية تلزم المحققين صراحة بالحفاظ على سرية جميع المعلومات غير العلنية، ويعد تسريبها أو بثها سوء سلوك قائما بذاته.
وترتب مدونات الإجراءات الوطنية التزامات مماثلة على القضاة وأعضاء النيابة العامة، بما ينشئ مسؤولية تأديبية محتملة لأي مسؤول يسهل إتاحة هذه المعلومات.
كما تؤكد إرشادات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن حماية الشهود تقتضي "الحفاظ على سرية التحقيقات وتقنين التواصل المؤسسي"، وهي معايير تناقض مباشرة تحويل مرحلة بالغة الحساسية إلى عرض علني.
ويتجاوز الضرر المؤسسي نطاق القضايا الفردية لينال من ثقة الجمهور بمنظومات العدالة ذاتها. فعندما تختزل إجراءات التحقيق إلى فرجة عامة، يتلاشى الفارق بين العملية القضائية المشروعة والاستعراض الإعلامي، فتتقهقر الهيبة والسلطة اللازمتان لإنفاذ القانون بفاعلية.
ومع تصاعد الانطباع بأن الدعاية مقدمة على نزاهة الإجراء، تتآكل ثقة المواطنين، ويتردد الشهود المحتملون في التعاون خشية نشر إفاداتهم قبل المحاكمة.
وتنتج هذه المفاعيل حلقات تغذية راجعة تضعف تدريجيا كفاءة النظام، وتقوض في المحصلة سيادة القانون نفسها.
بدائل مشروعة لإثبات الاحتجاز
تملك السلطات الساعية إلى تأكيد احتجاز المتهمين، وفي نفس الوقت الالتزام بالإجراءات، بدائل عديدة توازن بين الشفافية وصون ضمانات المحاكمة العادلة دون كشف مضامين التحقيق.
ويمكن تحقيق الشفافية الإجرائية عبر صيغ علنية محكمة: بيانات صحفية تؤكد وقوع التوقيف دون الخوض في الأدلة أو توصيف الذنب، وعرض عام لموضوع الاتهام دون تفاصيل من ملف التحقيق، وتأكيد مراعاة الضمانات الإجرائية دون كشف محتوى الاستقصاء، وتحديثات زمنية بشأن سير الإجراءات دون إفصاحات تفصيلية.
تلبي هذه الأدوات المصلحة العامة المشروعة في الاطمئنان إلى التصرف وفق القانون، مع الإبقاء على السرية اللازمة لصون التحقيق وفاعليته.
كما تستطيع هيئات الرصد المستقلة التحقق من قانونية الاحتجاز وسلامة الإجراءات دون نشر عام لمحتوى التحقيق. ويمكن لمنظمات حقوق الإنسان، ولجان الرقابة القضائية، والمراقبين الدوليين الاطلاع على المعلومات الضرورية بموجب ترتيبات للسرية، بما يوفر آليات مساءلة تحمي المصلحة العامة وحقوق الدفاع معا.
وقد أثبت هذا النهج فاعليته في ولايات قضائية متعددة، ما يظهر أن الشفافية والسرية لا تتعارضان بالضرورة متى أُحسن تصميم التوازن المؤسسي بينهما.
الخاتمة
تتجاوز ضرورة صون الحد الفاصل بين التحقيق والمحاكمة مجرد المتطلبات الفنية لتلامس صميم الحوكمة الديمقراطية. ويقتضي الأمر موازنة دقيقة بين المطالب المشروعة بالشفافية والاحتياجات المماثلة في مشروعيتها؛ لصيانة نزاهة الإجراءات، مع التسليم بأن تأخر العدالة بسبب مراعاة الأصول الإجرائية أولى بكثير من حرمانها بسبب انتهاكها.
إعلان
وفي ظل التحديات المتنامية التي تعترض سلامة منظومات العدالة، يزداد التشبث بهذا الفصل أهمية، ويجب مقاومة إغراء التضحية بالضمانات الإجرائية إرضاء للنزعة الشعبوية أو لمصالح سياسية آنية؛ فمتى تآكلت هذه الحدود صار ترميمها أقرب إلى المستحيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق