في ظل ما شهدته المرحلة الأخيرة من تشكيك مغرض بصلة المغاربة بالقضية الفلسطينية، خاصة عقب توقيع اتفاقيات التطبيع المعروفة بـ"اتفاقيات أبراهام"، جاء كتاب الشيخ حماد القباج رحمه الله "المغاربة والمسجد الأقصى: صلات أصيلة وعطاء ممتد" ليقدم ردا علميا ووجدانيا موثقا على هذه الادعاءات.
ويؤكد الكتاب أن علاقة المغاربة بالقدس والمسجد الأقصى ليست طارئة ولا انفعالية، بل هي صلة راسخة، متجذرة في التاريخ، موثقة بالمنجزات والعطاءات في مختلف المجالات.
وقد أمضى الشيخ القباج، المعروف بمواقفه الصلبة في مناصرة القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع، سنوات في جمع مادته، من وثائق ومسودات ونصوص تاريخية ورحلات ووقفات ومواقف تثبت إسهام المغاربة في خدمة بيت المقدس، مستوعبا جهود من سبقه، ومضيفا إليها رؤية شمولية لا تقتصر على باب دون آخر.
وبرغم إعاقته الجسدية، لم يفتر عزمه، غير أن اتساع المادة وطول الزمن أثارا لديه خشية من أن يدركه الوهن قبل إتمامه المشروع، فطلب من الأستاذ عبد المجيد أيت عبو مساعدته على إتمامه ومراجعته، لكن القدر شاء أن يرحل في مارس/آذار 2025 قبل أن يرى عمله مطبوعا، تاركا خلفه وثيقة علمية تنضح صدقا وعمقا، وتشهد على أصالة عطاء المغاربة واستمراره تجاه أولى القبلتين، وقد صدر عن مكتبة "وما يسطرون" العام الجاري.
يشير الأستاذ عبد المجيد أيت عبو في مقدمة الكتاب إلى ما بذله الشيخ حماد القباج من جهود صادقة في مناصرة القضية الفلسطينية والتصدي لموجات التطبيع، مستعرضا جملة من أعماله ومقالاته التي تعكس انشغاله العميق بها.
ويؤكد أن اهتمام الشيخ بموضوع صلة المغاربة ببيت المقدس لم يكن بدافع التوثيق التاريخي فحسب، بل كان مسعى واعيا لاستحضار الذاكرة الجمعية المغربية، واستنطاقا لما تحمله من إرث روحي وحضاري وسياسي تشكل عبر القرون، وصار جزءا لا يتجزأ من هوية الأمة المغربية ووجدانها.
من التاريخ العام إلى العطاء المغربي الخاص
جاء الكتاب في مقدمة وبابين رئيسين، وضعا بأسلوب محكم:
إعلان
مهد في الباب الأول لموضوعه بمشاهد تاريخية من بيت المقدس؛ استعرض فيه أبرز محطات تاريخ القدس، بدءا من فتح سيدنا عمر بن الخطاب لها عام 16 للهجرة، مرورا بالاحتلال الصليبي، ثم تحرير صلاح الدين، وصولا إلى موجات الاحتلال الحديث؛ الفرنسي للشام، والبريطاني لفلسطين، فالاحتلال الصهيوني القائم.
ويرصد المؤلف التحالفات الخادعة، من دور لورانس، إلى وعد بلفور، والسياسات التهويدية التي طالت المسجد الأقصى، والمواقف الإسلامية والعربية منها، كاشفا سياقات الهيمنة ومخططات المسخ والتزييف.
الباب الثاني، هو جوهر الكتاب، خصصه المؤلف لعرض أوجه العلاقة المغربية بالقدس، عبر سبعة فصول رئيسة، تمثل سجلا موسوعيا لحضور المغاربة في المدينة المقدسة.
أما الفصل الأول، فاستعرض فيه الرحلات المغربية إلى القدس والمسجد الأقصى، وتناول فيه حضور القدس في أدب الرحلة المغربي منذ القرن الخامس الهجري، ووقف عند عشرات الرحالة والعلماء المغاربة الذين زاروا الأقصى أو كتبوا عنه، من أمثال ابن العربي المعافري وابن جبير والشاطبي والعياشي وابن بطوطة والمكناسي والكتاني وغيرهم، الذين وثقوا في رحلاتهم صورة وجدانية وروحية عميقة للقدس في وعي المغاربة. وأما الفصل الثاني، فوقف فيه على جهاد المغاربة في الدفاع عن القدس، فعطاؤهم لم يقتصر على السفر والزيارة، بل تجاوزه إلى المشاركة في الذود عن المدينة، سواء في مواجهة الصليبيين، أو خلال تهديدات تيمورلنك، يذكر المؤلف شخصيات، مثل الأمير عبد العزيز بن شداد، ويعقوب المنصور الموحدي، ومكي بن حسون، ويبرز التعاون بين الدولة المغربية والدولة الأيوبية، كما يربط بين مواقف الأجداد ونضال المعاصرين من أصول مغربية، أمثال دلال المغربي وعماد العلمي وغيرهم. وأما الفصل الثالث، فتناول الإسهام العلمي والديني المغربي في القدس، استعرض الكاتب فيه حضور المغاربة في الحقل الديني بالقدس، من الإمامة والخطابة والقضاء، إلى التدريس والإفتاء، والتصدر في علوم الحديث والفقه، مع تركيز خاص على إشعاع المدرسة المالكية، كما أشار إلى مجالات معرفية أخرى مثل المواقيت والفلك والشعر. وأما الفصل الرابع، فقد وقف فيه الكاتب على أوقاف المغاربة في القدس وفلسطين، حيث وثق في كتاب مئات الوقفيات التي خصصها المغاربة للقدس، مثل وقفية الشيخ عمر المصمودي، ووقفية أبي مدين الغوث، ومصحف الربعة الشريفة، وبين طرق إدارتها وتنميتها، وكيف طالتها السياسات الصهيونية العدوانية بالمصادرة والتدمير. وأما في الفصل الخامس، فقد استعرض التراث المادي المغربي في القدس، فذكر معالم الوجود المادي المغربي في المدينة المقدسة، وأبرزها الزاوية والباب والجامع المنسوبة للمغاربة، ومسجد البراق والمدرسة الأفضلية وحارة المغاربة التي أمر صلاح الدين بتأسيسها قرب المسجد الأقصى لتسهيل سكنى المغاربة وعبادتهم، قبل أن يهدم هذا الحي عام 1967 إثر الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية. وأما الفصل السادس، فوثق فيه الكاتب المواقف السياسية والدبلوماسية المغربية، إذ لم تغب القضية الفلسطينية عن الضمير المغربي المعاصر، كما لم يغب المغرب عن ساحة الفعل، استعرض الكاتب مواقف المغرب الشعبية والرسمية منذ بداية القرن العشرين، مثل مشاركة المغرب في ثورة البراق 1929، ثم احتجاجاته ضد قرار التقسيم، ومساهماته في حرب 1973، وذكر تأسيس لجنة القدس وبيت مال القدس، إلى جانب مواقف قادة وأحزاب، مثل علال الفاسي وعبد الله كنون، وحزب الاستقلال والحركة الوطنية. ثم اختتم الباب بالفصل السابع، الذي استعرض فيه مواد صحفية ووثائقية من جريدة "الوحدة المغربية"، وغيرها من المصادر، التي تعكس الوعي الإعلامي المغربي بالقضية، وتكشف عن تجذر حضور القدس في الإعلام المغربي والوعي الجمعي تجاه السياسات الصهيونية ومخططات تهويد المدينة، مع إبراز سبل المقاومة الثقافية والسياسية.القدس في وجدان المغاربة
انتهى المؤلفان في خاتمة الكتاب إلى أن صلة المغاربة بالقدس هي صلة تاريخية وروحية عميقة، نابعة من عقيدة راسخة، لا يمكن أن تنحرف أو تضل، فالمسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، والارتباط به واجب ديني لا يقل قدسية عن الارتباط بالحرمين المكي والمدني، وهذا مغروس في الإيمان المغربي عبر العصور.
إعلان
وقد شارك المغاربة فعلا في تحرير القدس مع صلاح الدين الأيوبي، واستقر بعضهم فيها، وكانت لهم فيها حارة قائمة، وأوقاف مزدهرة، ومبادرات خيرية ساهمت في عمران المدينة المقدسة، إضافة إلى ما أبداه العلماء والرحالة المغاربة من شوق للأقصى، ومكثهم فيه طلبا للعلم، وبثا له.
كما أكد المؤلفان استمرار هذا الارتباط في الحاضر، بالجهود الرسمية والمدنية في دعم صمود المقدسيين، وحفظ تراثهم، وتكثيف المشاريع التنموية، لا سيما من طرف "بيت مال القدس"، مما يجسد تواصل العطاء المغربي وتيقظ الضمير الديني تجاه القدس.
اعتمد الكتاب على مئة وأربعة وعشرين مرجعا عربيا وأجنبيا، ما بين وثائق تاريخية ودراسات متخصصة ومواد صحفية ووثائق وقفية وأدب رحلات، ما يجعل منه مرجعا علميا موسوعيا في موضوعه، يغني الباحثين عن الرجوع إلى عشرات المصادر المتفرقة، ويفتح آفاقا جديدة لدراسة الارتباطات العميقة بين الشعوب الإسلامية ومقدساتها.
إن كتاب "المغاربة والمسجد الأقصى" لا يكتفي بتوثيق العلاقة التاريخية بين المغاربة والقدس، بل ينهض بدور الدفاع عن الهوية، والرد على حملات التشكيك، وبيان أن دعم فلسطين والتمسك بالقدس ليس خيارا سياسيا، بل جزء من وجدان الأمة وهويتها، وهو بهذا يرقى لأن يكون وثيقة مرجعية في زمن الالتباس، تشهد بأن المغاربة لم يكونوا يوما غائبين عن بيت المقدس، بل كانوا من حراسه وأهله في الماضي، مناصرين له في الحاضر، موقنين بنصره في المستقبل.
0 تعليق