"موكوساتسو" كلمة قتلت ربع مليون إنسان - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في صيف عام 1945 كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، فقد سقطت برلين في مايو/أيار نفس العام، وأعلنت ألمانيا استسلامها غير المشروط، في حين بقيت اليابان مستمرة في القتال رغم الخسائر الفادحة والدمار الواسع الذي لحق بمدنها منذ معركة ميدواي عام 1942 وحملة الجزر الكبرى.

وفي هذا الوقت، انعقد مؤتمر بوتسدام في ألمانيا بين 17 يوليو/تموز و2 أغسطس/آب 1945، وجمع قادة الحلفاء الكبار: جوزيف ستالين عن الاتحاد السوفياتي، وهاري ترومان رئيس الولايات المتحدة، وونستون تشرشل الذي خَلفه كليمنت أتلي بعد خسارته الانتخابات البريطانية أثناء المؤتمر، وعن الصين زعيم الحكومة تشيانغ كاي شيك.

وفي 26 يوليو/تموز 1945 أصدر المؤتمر إعلانا نهائيا يطالب اليابان بالاستسلام غير المشروط، مع تحذير من مواجهة "دمار سريع وكامل" إذا رفضت. وتضمن الإعلان البنود الأساسية لتفكيك الجيش الياباني، ومحاكمة مجرمي الحرب، وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، وتقليص سيادة اليابان إلى الجزر الأربع الرئيسية.

وكان الهدف إجبار طوكيو على قبول الهزيمة دون شروط، مع محاولة تجنب غزو بري مكلف، في وقت كان صناع القرار اليابانيون منقسمين بين قبول الاستسلام أو الاستمرار بالحرب للحفاظ على شرف الأمة وقوتها.

epa03809422 (FILE) A file photo dated 17 July 1945 shows (from L) British premier Winston Churchill (L), US President Harry Truman (2-L) and Russian leader Joseph Stalin (2-R) at the Potsdam conference, Germany. Reports state on 31 July 2013 that Brompton Road tube station, in central London, which is currently owned by the Ministry of Defense (MoD), is to be sold. The building, currently owned by the Ministry of Defense (MoD), used to be Winston Churchill's command centre during WWII. The MoD is now selling the disused station hoping to gather 60 million pounds (69 million euros) for the British troops in the frontline. The building is currently home to the London University Air Squadron, the London University Royal Naval Unit, and 46F Squadron Air Training Corps. EPA/STR BLACK AND WHITE ONLY
تشرشل (يسار) بجانبه ترومان وستالين في مؤتمر بوتسدام بألمانيا 1945 (الأوروبية)

موكوساتسو

في ذلك الوقت، كان رئيس الوزراء الياباني كانتارو سوزوكي يواجه ضغوطا داخلية ضخمة، ولا سيما من الجيش الذي رفض فكرة الاستسلام دون شروط.

وعقب إعلان بوتسدام بيومين في 28 يوليو/تموز 1945، عقد سوزوكي مؤتمرا صحفيا للرد على ما جاء في الإعلان. وعندما سأله الصحفيون عن موقف الحكومة، استخدم كلمة يابانية معقدة هي "موكوساتسو" وتحمل معاني متعددة حسب السياق.

فوفقا لقواميس يابانية مثل "كوجيئين" يمكن أن تعني هذه الكلمة "الصمت" أو "عدم التعليق" أو "التجاهل بازدراء" ولكن في السياق السياسي غالبا ما تُستخدم للإشارة إلى تجاهل شيء ما دون إصدار تعليق رسمي، وهو أسلوب دبلوماسي شائع في اليابان لتجنب المواجهة المباشرة.

إعلان

وفي مقالة للكاتب جاي ماركي بعنوان "ترجمة جيدة كان من الممكن أن تمنع هيروشيما" نُشرت في صحيفة نيويورك تايمز عام 1989، تناول ما اعتبره واحدا من أخطر أخطاء الترجمة في التاريخ الحديث، والذي ربما كان كفيلا بتغيير مجرى الحرب العالمية الثانية.

ويرى ماركي أن كلمة موكوساتسو التي استخدمها سوزوكي فُسرت في الإعلام والدوائر السياسية الأميركية على أنها "رفض قاطع" أو "عدم قبول مطلق" إلا أن معناها الأدق في السياق الياباني كان أقرب إلى "لا تعليق" أو "نحن ندرس الأمر بصمت" وهو تعبير يعكس موقفا حياديا أو انتظارا لمزيد من النقاش، وليس تحديا أو رفضا نهائيا.

وبحسب المقال، فإن موقف سوزوكي عزز لدى القيادة الأميركية قناعة بأن اليابان ترفض أية تسوية سلمية. ولكن كما أشار تقرير سلط الضوء على الترجمة الخاطئة لكلمة موكوساتسو نشره موقع "سلايت" الفرنسي، فقد اختارت وكالات الأنباء الدولية وقتها بما في ذلك اليابانية التي تعمل بالإنجليزية ترجمة الكلمة بمعنى "التجاهل بازدراء" أو "لا يستحق التعليق".

ووفقا للتقرير الفرنسي فقد وقع اليابانيون أنفسهم في فخ الغموض، ففي صباح اليوم نفسه الذي عقد فيه رئيس الوزراء الياباني مؤتمره الصحفي، اختار صحفيو وكالة الأنباء الرسمية "دومي" ترجمة "موكوساتسو" إلى "تجاهل" وعلى الفور نشرت النسخة الإنجليزية من صحيفة "أساهي" على صفحتها الأولى "حكومة اليابان الإمبراطورية لن تولي أي اهتمام لهذا الإعلان".

TOKYO, JAPAN - AUGUST 10: Privy Council Chairman Kantaro Suzuki leaves the Imperial Palace after Imperial investiture on August 10, 1944 in Tokyo, Japan. Kantaro Suzuki(1868-1948) was the 42nd Prime Minister of Japan. (Photo by The Asahi Shimbun via Getty Images)
سوزوكي استخدم كلمة موكوساتسو وفسرتها أميركا على أنها "رفض قاطع" أو "عدم قبول مطلق" (غيتي)

وكان سوزوكي قد اشتعل غضبا ونقمة عقب هذه الترجمة الخاطئة التي تصدرت جميع النسخ، وترددت أصداؤها في أروقة الحلفاء، ووصلت إلى مسامع الرئيس الأميركي ترومان كـ"ازدراء صامت" قبل أن تسقط على اليابان قنبلتان ذريتان.

ولهذا السبب توضح مذكرة لافتة للاهتمام، من وكالة الأمن القومي الأميركية وقتها، كيف رُئي هذا الرد من قبل الأميركيين على أنه "مثال نموذجي على الروح المتعصبة الكاميكازية لدى اليابانيين" في حين كان سوزوكي قد اختار "موكوساتسو" لغموضها، على أمل تهدئة الجناح المتعصب والغاضب من العسكريين الرافضين للاستسلام، وفي نفس الوقت مراعاة الحلفاء لشراء الوقت والبحث عن مخرج، ولكن الأمور قد تطورت لاحقا إلى ما لا يُحمد عقباه.

ويرى الكاتب الفرنسي جوليان أبادي أن مجريات الأحداث كشفت أن الغموض لم يكن حكرا على الجانب الياباني فقط، إذ وقع الأميركيون أيضا في فخه. فإعلان بوتسدام رغم وضوح تهديده، لم يكشف صراحة عن نوايا الحلفاء ولا عن امتلاك الولايات المتحدة للسلاح النووي، مما أتاح لليابانيين مجالا للتكهن والتشكيك في جدية الإنذار. وبالنظر إلى أن الأرخبيل الياباني كان يخضع منذ أشهر لحملة قصف جوي مدمرة، لم يكن من السهل على صناع القرار في طوكيو تصور أن الموقف قد يزداد سوءا.

ورغم أن ترومان كان قادرا على توضيح الموقف لليابان، فإنه تجنب ذلك خشية العواقب السياسية الداخلية لا سيما ردود فعل الكونغرس، إذ كان كشفُ مشروع نووي سري بلغت تكلفته ملياري دولار حينئذ -عبر وسائل الإعلام- أمرا يصعب تبريره في إطار الديمقراطية الأميركية، حتى زمن الحرب. وإلى جانب هذا التحفظ الأميركي، لعبت اليابان هي الأخرى بورقة الغموض لأسباب سياسية داخلية بحتة.

إعلان

فتصريح رئيس الوزراء سوزوكي باستخدام كلمة "موكوساتسو" كان موجها بالأساس لطمأنة الجيش والحفاظ على تماسكه، في ظل مؤسسة عسكرية لم تعرف الاستسلام قط منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1936.

وفي أجواء التوتر القصوى هذه كان سوزوكي يدرك أن أية إشارة ضعف قد تؤجج تمردا عسكريا واسعا، وهو ما كاد يحدث بالفعل ليلة 14-15 أغسطس/آب 1945 عشية إعلان الاستسلام، وهكذا تحولت "موكوساتسو" من عبارة ملتبسة إلى اعتراف غير مباشر بعجز الحكومة عن كبح نفوذ الجيش أو تغيير مسار الأحداث، لتصبح جزءا من دينامية داخلية حالت دون إنهاء الحرب قبل وقوع المأساة النووية.

أبادي: إعلان بوتسدام لم يكشف صراحة عن نوايا الحلفاء ولا امتلاك الولايات المتحدة للسلاح النووي مما أتاح لليابانيين مجالا للتشكيك في جدية الإنذار (الفرنسية)

وجهة النظر اليابانية

وفقا للوثائق التي يعرضها الأرشيف الوطني الياباني على موقعه على الإنترنت، وتحليله التاريخي لها، فإنه لم تمض فترة طويلة على إعلان بوتسدام حتى توصّل كبار المسؤولين بالخارجية حينئذ، وعلى رأسهم الوزير توغو شيغينوري، إلى قناعة بضرورة التعامل مع هذا الإعلان بمرونة عبر قبوله من حيث المبدأ.

وقد استند هذا التوجه إلى تفسير مفاده أن عبارة "الاستسلام غير المشروط" الواردة في الإعلان تنطبق حصرا على الجيش الياباني، بما يجعلها أقرب إلى صيغة "سلام مشروط" كما أن المادة رقم 12 من الإعلان -التي تنص على انسحاب قوات الاحتلال عقب تشكيل حكومة مسالمة ومسؤولة وفق إرادة الشعب- لا تحمل بالضرورة دلالة على إلغاء النظام الإمبراطوري.

ووفقا للأرشيف الوطني الياباني فقد فضّل وزير الخارجية توغو ومعه عدد من كبار الدبلوماسيين تبني سياسة "عدم التعليق" أي الامتناع عن إعلان موقف صريح في تلك المرحلة، وقد أصبحت هذه المقاربة -المدعومة أيضا من رئيس الوزراء- سياسة رسمية للدولة.

وفي هذه الأثناء كانت طوكيو تسعى عبر قنوات خلفية إلى استكشاف إمكانية تدخل الاتحاد السوفياتي للوساطة في التوصل إلى تسوية سلمية، غير أن هذه السياسة تعثرت سريعا، إذ خرج سوزوكي نفسه في مؤتمره الصحفي بتاريخ 28 يوليو/تموز 1945 معلناً أن الحكومة "لا ترى في الإعلان ما يستحق الاهتمام" مؤكدا أن الرد الياباني سيكون "تجاهلاً تاما".

وقد فُسِّر هذا الموقف لدى الحلفاء بوصفه رفضا صريحا، فتحولت "موكوساتسو" والتي تعني "التجاهل" في المفهوم الدبلوماسي الياباني وقتئذ إلى "الرفض" في المفهوم الغربي والأميركي، وأضحى لاحقا أحد المبررات التي سُوّغ بها قرار استخدام السلاح النووي ضد اليابان، بحسب ما يذكره سوميو هاتانو مدير مركز اليابان للسجلات التاريخية الآسيوية.

وفي ذلك الحين كان السفير الياباني في موسكو ساتو ناوتاكي يبعث برسائل متكررة إلى وزير الخارجية شيغونوري، محذرا من أن واشنطن ولندن لا تبديان أي استعداد للتخفيف من الاستسلام غير المشروط، وأن مساعي إرسال مبعوث خاص إلى موسكو لن تحقق جدوى، ومع ذلك غذّى امتناع الاتحاد السوفياتي عن الانضمام إلى إعلان بوتسدام آمالاً مبالغا فيها لدى القيادة اليابانية بإمكانية كسب موقف إيجابي من موسكو، الأمر الذي جعل خيار التوجه إليها بمبعوث خاص مستمرا رغم مؤشرات الفشل الواضحة.

رئيس الوزراء سوزوكي كانتارو (يسار)، وزير الخارجية توغو شيغينوري (وسط)، وسفير اليابان لدى الاتحاد السوفيتي ساتو ناوتاكي (يمين). المصدر: مكتبة البرلمان الوطني
من اليسار: رئيس الوزراء سوزوكي ووزير الخارجية شيغينوري والسفير لدى الاتحاد السوفياتي ناوتاكي (مكتبة البرلمان الوطني)

موكوساتسو والقنابل النووية

وفقا لوثائق وكالة الأمن القومي الأميركية التي أُفرج عن بعضها لاحقا، فقد أُبلغ ترومان أن رد سوزوكي يعكس موقفا متعجرفا من اليابان مما أثار غضب الإدارة الأميركية، وقد ساهم هذا التفسير الخاطئ والمتسرع في تعزيز القرار باستخدام القنبلة النووية، وعجّل به. ففي 6 أغسطس/آب 1945، أُسقطت القنبلة الذرية "ليتل بوي" على هيروشيما، مما أدى إلى مقتل حوالي 70 ألف شخص على الفور، وما يقرب من 100 ألف آخرين لاحقا بسبب الإشعاع والدمار.

إعلان

وبعد 3 أيام في 9 أغسطس/آب أُسقطت قنبلة أخرى "فات مان" على مدينة ناغازاكي، مما أسفر عن مقتل ما بين 35 ألفا و40 ألف شخص في الحال، مع خسائر إضافية بسبب تأثيرات الإشعاع.

وتشير مصادر يابانية -كما يذكر كتاب "قرار استخدام القنبلة النووية" للمؤرخ الأميركي غارف ألبرويتز- إلى أن اليابان كانت بالفعل على وشك الاستسلام قبل إلقاء القنابل، خاصة مع دخول الاتحاد السوفياتي الحرب ضد اليابان في 8 أغسطس/آب 1945.

ومع ذلك، فإن سوء فهم كلمة "موكوساتسو" ساهم في تسريع قرار الولايات المتحدة استخدام السلاح النووي، حيث رأى ترومان أن الرد الياباني يعكس تحديا مباشرا.

ومن اللافت أن هناك جدلا بين المؤرخين حول مدى تأثير سوء ترجمة "موكوساتسو" على قرار إلقاء القنبلة الذرية، فوفقا للمؤرخ الأميركي جون داور -في كتابه "ثقافة الحرب" والذي يخصص فيه فصولا لمناقشة سوء الترجمة أو التفسير السياسي لكلمة "موكوساتسو" ويقارن بين ثقافة الحرب الأميركية واليابانية، وبين قرارات قصف اليابان وقرارات لاحقة بالحروب الحديثة- فإنه يرى أن قرار استخدام القنبلة النووية كان مسبقا مدفوعا بعوامل متعددة، بما في ذلك الرغبة في إنهاء الحرب بسرعة، وتقليل الخسائر الأميركية في حالة غزو بري لليابان، وإظهار القوة أمام المنافس القوي الصاعد الاتحاد السوفياتي.

ومن هذا المنظور فربما يكون سوء الترجمة لكلمة "موكوساتسو" قد عزز القرار وعجل به، لكنه لم يكن العامل الوحيد.

HIROSHIMA, JAPAN - AUGUST 10: Bodies of the worlds first Atomic Bomb victims are uploaded before being cremated next to former Fukuya Department Store on August 10, 1945 in Hiroshima, Japan. (Photo by Hajime Miyatake/The Asahi Shimbun via Getty Images)
القنبلة الذرية على هيروشيما أدت لمقتل حوالي 70 ألف شخص على الفور وما يقرب من 100 ألف آخرين لاحقا بسبب الإشعاع والدمار (غيتي)

وعلى الجانب الياباني، فقد أشار رئيس الوزراء لاحقا وفق شهادة ابنه إلى أن استخدامه لكلمة "موكوساتسو" كان موجها بشكل رئيسي إلى الجيش الذي كان يعارض الاستسلام، حيث كان سوزوكي يحاول كسب الوقت لتهدئة التيار العسكري المتشدد داخل الحكومة، وتجنب انقلاب محتمل.

وما يؤكد ذلك ما جاء في تقرير صحيفة "سلايت" الفرنسية في سبتمبر/أيلول 2014، فقد تم إحباط محاولة انقلاب عسكري في الليلة التي سبقت رد سوزوكي الصحفي، مما يعكس التوتر الداخلي في اليابان.

ومهما يكن فإن قصة "موكوساتسو" تُعد درسا تاريخيا قاسيا، إذ تشير دراسات مثل تلك التي أجراها المؤرخ تسويوشي هاسيغاوا إلى أن اللغة اليابانية بطبيعتها المراوغة والمليئة بالسياقات تتطلب فهما عميقا للثقافة والنوايا، فكلمة "موكوساتسو" ليست مجرد كلمة بل هي تعبير عن نهج دبلوماسي ياباني يعتمد على الغموض لتجنب الصراعات المباشرة.

ولكن في سياق الحرب العالمية الثانية حيث كانت التوترات في أوجها، لم يكن هناك مجال لهذا الغموض، خصوصا مع وجود موقف أميركي مسبق متحفز لاستخدام قنابل مدمرة تسببت بمقتل وإصابة مئات الآلاف من اليابانيين.

إن قصة "موكوساتسو" ليست مجرد حكاية عن خطأ لغوي، بل هي تذكير بقوة الكلمات وتأثيرها على مصير الأمم، ولكن لإحقاق الحق ومن خلال العديد من المصادر التي تناولت الحادثة يتضح أن هذا الحدث لم يكن نتيجة خطأ واحد بل تقاطعت فيه عوامل سياسية وعسكرية وثقافية.

ورغم ذلك تظل "موكوساتسو" رمزا لخطورة سوء التواصل أوقات الأزمات، ودعوة لضرورة فهم الثقافات واللغات بعمق لتجنب الكوارث.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق