أيا كانت المذاهب الشتى التي ذهب إليها الناس في تحليلاتهم لما تم في زيورخ السويسرية الأسبوع الماضي، من زيارة خاطفة لرئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان ولقائه مع مسعد بولس مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووفده، إلا أنه، ودون الخوض في تفاصيل ما جرى، فقد اجتمعت الآراء حول أهمية تلك الخطوة، وأنها ستكون فاصلا مهما للأحداث في السودان، على مظنة أن ما قبل اللقاء كان شيئا، وما بعده يترتب عليه مواقف جديدة وتقديرات لها انعكاسات على مسار الحرب وهي تتجاوز عامها الثالث.
وبعيدا عن الدوافع التي اعتمد عليها البرهان في موافقته على اللقاء وسفره غير المعلن، تبرز تساؤلات حول خلفيات هذا الحدث الذي لم يكن منبتا، وهل سبقته اتصالات وتحضيرات أدت إلى انعطاف الموقف الأميركي المحاذر من التدخل المباشر والحاسم في الملف السوداني…؟
اللافت أنه بعد مجيء إدارة الرئيس ترامب، لم يكن ملف السودان على الطاولة في البيت الأبيض. فقد ورثت الإدارة الحالية وضعية غير منتجة لهذا الملف الذي ظل يُدار عبر دائرة صغيرة بوزارة الخارجية الأميركية، هي التي تتحكم في تعاطي واشنطن مع القضية السودانية وتحدد مساراتها ومعالجتها.
لم تأبه الإدارة الحالية كثيرا خلال الفترة الماضية بما يدور في السودان، إلا بضع محاولات قام بها وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو تحت تأثير الإدارات المختصة في وزارته، بجانب تصريحات ونشاط محدود لبعض أعضاء الكونغرس وجماعات الضغط، ولم تكن كلها لتحقق مرادات هذه الأطراف، ومنها اجتماع اللجنة الرباعية الذي حُدد له موعد ثم أُلغي نهاية الشهر الماضي.
لذلك ظل الملف السوداني لسنوات طويلة حكرا على الخارجية الأميركية التي لم تكن تحفل في المنظور الإستراتيجي بما يمثله السودان من أهمية جيوستراتيجية وسياسية، ولم تجنح إلى الحوار مع السودان لإرساء دعائم تفاهمات تقود إلى ما يضمن علاقة مستقرة وبيئة ينتج عنها سلام مستدام في السودان والإقليم، خاصة أن واشنطن ظلت باستمرار طرفا أصيلا في تعقيد مشكلات هذا البلد المنكوب.
إعلان
بالرغم من فرض واشنطن عقوبات على رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان في 16 يناير/كانون الثاني الماضي قبيل مغادرة الديمقراطيين السلطة، على خلفية مزاعم وأباطيل باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيماوية في الحرب الدائرة ضد تمرد مليشيا الدعم السريع في ولاية الخرطوم، فإن الإدارة الجمهورية الحالية تجاوزت هذه القضية ومسألة العقوبات، وفضلت التعامل المباشر مع البرهان؛ لاعتقادها أن التواصل المباشر معه يتساوى مع قدر الأهمية البالغة التي توليها للسودان في راهنه الحالي ومستقبل علاقته مع واشنطن، وتأثير ما يجري فيه على الإقليم.
في هذا السياق وجدت مؤسسات أميركية نافذة مثل المخابرات المركزية الأميركية (CIA) والبنتاغون، الفرصة سانحة للتحرك، وهي من أهم أدوات صناعة القرار وتنفيذه في الولايات المتحدة، وتحركت عبر واجهات مختلفة، واستمزجت الكثير من الآراء وجمعت الكثير من المعلومات حول ما يجري في السودان وتداعياته.
وتم إرسال وفد من المخابرات قبل أسابيع إلى بورتسودان، والتقى بمدير المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، وجرى في هذا الاجتماع مناقشة القضايا والملفات الرئيسية التي تمثل شواغل واشنطن في السودان، وهي: وضع الحرب وتداعياتها على الإقليم، كيفية استئناف التعاون السوداني في ملف محاربة الإرهاب، منظومة الأمن الإقليمي في شرق ووسط وغرب أفريقيا وأمن البحر الأحمر. وطرحت خلال الاجتماع آراء بناءة بعد الحوار الصريح بين الجانبين.
في ذات الوقت، كانت هناك عناصر موفدة من مراكز بحثية أميركية تتبع لهاتين المؤسستين الأميركيتين: المخابرات المركزية والبنتاغون، تجوب المنطقة وتجلس إلى عدد من السودانيين في القاهرة، والدوحة، ونيروبي، ودبي، وتركيا، وأوغندا، وجنوب السودان.
واستمعت هذه العناصر لوجهات نظر مختلفة تمثل كل الأطياف السياسية والاجتماعية السودانية ومواقفها من الحرب الدائرة وكيفية معالجتها والدور الأميركي المنتظر. واستأنست الإدارة الأميركية ومبعوثوها بآراء دول عربية في المنطقة: مصر، وقطر، والسعودية، ودول أفريقية، بالإضافة إلى تركيا وبعض الأطراف الغربية.
ما يهم إدارة الرئيس ترامب، هو ما يسعى إليه الرئيس الأميركي المنشغل بطي التوترات والحروب الساخنة في العالم محاولا الظهور بمظهر رسول السلام، ثم خدمة المصالح الحقيقية للولايات المتحدة، وبناء إستراتيجيات جديدة تراعي هذه المصالح.
بالنسبة للسودان اعتمد ترامب وإدارته على تقارير الجهات ذات الصلة، وهي: المخابرات، ووزارة الدفاع؛ لتقييم الوضع في السودان، وتم بعدها تحديد شواغل البيت الأبيض، وهي:
التعاون المشترك مع السودان في علاقة ثنائية مباشرة. الحفاظ على منظومة الأمن الإقليمي في القرن الأفريقي وجوار السودان. تسوية نزاعات السودان ومنع تمددها. استئناف ومواصلة التعاون السابق في مجال مكافحة الإرهاب، إذ للسودان دور بارز لم يتسنَ لأي دولة أخرى أن ساهمت فيه بالقدر الذي تعاونت فيه المخابرات السودانية مع الطرف الأميركي سابقا. تعزيز الوجود داخل هذا البلد والاستفادة من موارده، وخاصة في مجالات التعدين والطاقة والمعادن النادرة.إعلان
على ضوء هذه المعطيات، توفرت لدى الجانب الأميركي حقائق ومعلومات، دعت إلى التقاط اللحظة المناسبة. وليس خافيا أن تقارير دبلوماسية سودانية وأخرى لدول صديقة للسودان ظلت تتحدث منذ فترة طويلة عن حوار داخل مؤسسات القرار الأميركي، مؤداه أن السودان بلد مهم، يتعين على واشنطن أن تخرج من حالة الحياد وتحسم توجهاتها حول الحرب الدائرة وقراءتها وفق المصالح وبما يخدم أهداف السياسة الأميركية، واعتماد التقارب مع قيادة الجيش ورئاسة الدولة والعمل معها سبيلا أمثل للتوصل إلى تفاهم وإنهاء حالة الحرب.
بغض الطرف عما دار في لقاء زيورخ، فإن القليل الذي رشح هو اهتمام الأميركيين في اللقاء بمستقبل الحكم وهندسة الحياة السياسية بالسودان، بما في ذلك تجاوز بعض العقبات وعدم التمسك بدعم طرف واحد ضئيل الحجم يتحدث باسم القوى المدنية.
وينظر الطرف الأميركي إلى أن مستقبل السودان السياسي لا يتباعد عن النماذج الموجودة في المنطقة وفي جواره، حيث الجيش سيظل لفترة قادمة أهم أطراف المعادلة السياسية.
لكن الموقف الأميركي الذي ينبغي أن يكون البرهان واضحا وصلبا فيه هو محاولة الأميركيين إثارة مخاوفه من الإسلاميين. والبرهان يعلم أن الإسلاميين هم التيار الأكثر حضورا في المشهد السياسي، وهو متجذر داخل المجتمع ومؤسساته، وينخرط هذا التيار بالكامل في المعركة ضد التمرد، ولديه امتدادات في الإقليم وعلاقات واسعة في العالم سُخرت من أجل هذه المعركة.
ولا يمكن مقارنة هذا التيار بغيره من القوى السياسية، فجميع التحالفات وحملات التعبئة التي تمت والمقاومة الشعبية وتشكيل الرأي العام المساند للقوات المسلحة شارك فيها الإسلاميون بفاعلية جعلتهم أهم تيار وطني يعمل مع الآخرين للحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها وسيادتها.
شواهد التاريخ تقول إن الأميركيين لم يكونوا صادقين مع كل حلفائهم، ومن الخطأ الاعتقاد أن أوراق اللعبة بيد الأميركيين، فيتوجب الحذر في التعامل مع واشنطن؛ لتجنب خداعهم وخذلانهم كما فعلوا مع النميري، وحسني مبارك، وشاه إيران وغيرهم من الحلفاء الذين تخلوا عنهم فسقطوا كأوراق الخريف. فليس للولايات المتحدة صديق.
فالرهان على واشنطن وحدها لن يجعل السودان يضمد جراحه وينطلق، فإذا أراد الأميركيون علاقات متكافئة فيها مراعاة لأمن السودان واستقراره وسلامة أراضيه، فإن التفاهمات الحالية يمكن أن تقود إلى نقطة البداية الصحيحة.
في الوقت نفسه، يمكن للبرهان أن يجنب البلاد شرور المواقف الأميركية الحادة إذا نجح في حواره مع الجانب الأميركي، وكان واضحا ومتمسكا بالثوابت الوطنية، ورافضا تدخلهم السافر في الشأن الداخلي.
كما أن التفاهم معهم حول المنافع المشتركة والتعاون الثنائي الذي يخدم مصالح البلدين، إلى جانب التنسيق في الملفات الإقليمية والحفاظ على الأمن والسلم في الفضاء الأفريقي والعربي، يمنحه فرصة واسعة لتحقيق ذلك.
ريثما تحدد الإدارة الأميركية تصورها للتعامل مع ملف الحرب في السودان، سواء كانت ستطرح رؤية للتسوية أو تعمل مع السلطة الشرعية القائمة على إنهاء التمرد كما طالب البرهان، ينبغي على رئيس مجلس السيادة عدم ترجيح كفة القوى الخارجية على القوى الداخلية، العامل الأهم في المعادلة، ودورها هو الأبرز في الحفاظ على البلاد وتماسكها.
فالقوى الخارجية مهما كانت سطوتها تنظر إلى تفاعلات الداخل، ولا يمكنها فرض شيء على السودان إذا كانت قواه الداخلية مستيقظة وحية ومتماسكة وقوية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق