في رحاب السيرة الهلالية، حيث تختلط الأسطورة بعبق التاريخ، تبرز الجازية الهلالية كصوتٍ يعلو فوق صهيل الخيل وضجيج السيوف. لم تكن امرأة عابرة بين السطور، بل كانت عقلًا نافذًا ورأيًا مُهابًا، يلتفت إليه الرجال حين تضلّ القبيلة طريقها. هناك، في مجلس الشورى، جلست بثقةٍ، حتى نُسب إليها ثلثه، وكأن القدر أراد أن يمنحها موقعًا يليق ببصيرتها.
لم تكن الجازية ظلًّا يُضاف إلى حضور الرجال، بل كانت حضورًا كاملًا، قادرة على أن تضع الكلمة في موضعها، فتقطع الجدل كما يقطع السيف غبار المعركة. لم تكن أسيرة الخيمة ولا حبيسة العادات، بل شريكة في القرار وصانعة لمصير قومها. وهكذا ارتفعت فوق حدود عصرها، لتصبح رمزًا للمرأة التي تعرف كيف توازن بين الحكمة والقوة، بين العقل والعاطفة، فتجعل صوتها ميزانًا للأمة.
إننا حين نتأمل صورتها اليوم، ندرك أن فكرة "تمكين المرأة" لم تولد في المؤتمرات الحديثة ولا في شعارات المؤسسات الدولية، بل كانت كامنة في قلب التراث العربي، حين أعطى المجتمع أذنًا صاغية لصوتٍ أنثوي حكيم. الجازية هي الشاهد على أن المرأة متى مُنحت الفرصة، أضافت إلى القرار عمقًا وبعدًا لا يملكه الرجال وحدهم.
وفي زمننا الحاضر، حيث المدن تعجّ بالمجالس والبرلمانات، وحيث تتشابك الملفات الاقتصادية والاجتماعية، يعود صدى الجازية ليطرح السؤال: هل أخذت المرأة اليوم نصيبها العادل من صناعة القرار؟ أم ما زال حضورها محدودًا، بينما تُثبت التجارب أن صوتها ضرورة لا ترفًا؟
الجازية لم تكن فقط أسطورة تُروى للتسلية، بل درسًا يطلّ من الماضي ليلهم الحاضر. فهي مرآة تذكّرنا أن التغيير لا يبدأ بالقوانين وحدها، بل بالاعتراف بقيمة المرأة كشريكٍ كامل في بناء المجتمع. فما كانت عليه قبيلة بني هلال أمس، هو ما تحتاجه أمتنا اليوم: شجاعة الإصغاء لصوتٍ قد يقودنا إلى برّ الأمان.
ويبقى السؤال المعلّق في أفق المستقبل: إذا كان للجازية ثلث الشورى في زمن البادية، فكم للمرأة العربية اليوم من مساحة في سماء القرار؟ وهل نستطيع أن نصغي، كما أصغى رجال القبيلة، إلى كلمة امرأة قد تغيّر مصيرا كاملا؟.
ياسر خليفة يكتب: الجازية الهلالية.. سرّ «امرأة» حملت ثلث الشورى في بني هلال - هرم مصر

ياسر خليفة يكتب: الجازية الهلالية.. سرّ «امرأة» حملت ثلث الشورى في بني هلال - هرم مصر
0 تعليق