نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من المعارك نحو الفنّ: كيف واكب البرونز حضاراتنا؟ - هرم مصر, اليوم الجمعة 12 سبتمبر 2025 02:36 صباحاً
هرم مصر - على مدى آلاف السنين، شكّل البرونز مسار الحضارة الإنسانية. من الأسلحة التي صانت الإمبراطوريات وصنعت مجدها إلى التماثيل التي خلدت رموزاً قوميّة، أدّى هذا المزيج من النحاس والقصدير دوراً محورياً في الحرب والثقافة، وجعلت المتانة والجاذبيّه منه مادة مفضّلة للتزيين والتكريم على امتداد العصور وعبر الثقافات.
من الحرب نحو الفنّ
يمكن القول إنّ "اللقاء" الأول بين الإنسان والبرونز كان في ساحة المعركة؛ هناك، اختبر حدّته وسهولة إعادة صهره وتشكيله عند تلفه، وارتبط بتلك الفترة حتّى حملت اسمه وباتت تُعرف بـ"العصر البرونزي".
البرونز هو سبيكة من النحاس والقصدير - وأحياناً معادن أخرى - تميّز بصلابته ومتانته مقارنة بالنحاس الخام. مع بداية الألفية الرابعة قبل الميلاد تقريباً، بدأ الإنسان في مناطق مختلفة من العالم - مثل الشرق الأدنى، وبلاد ما بين النهرين، ومصر، والصين - في صهر المعادن وصناعة أدوات أكثر قوة وفعالية من تلك المصنوعة من الحجر أو النحاس النقي.
في العصر البرونزي، صُبّ المعدن الصلب في السيوف والرماح والفؤوس. ومع انتشار تقنيّات الصبّ، سرعان ما اكتشف الحرفيون الإمكانات الإبداعية للبرونز. فقد ظهرت أقدم الأعمال الفنية البرونزية في آسيا القديمة، حيث أنتجت تقنّيات الصبّ تماثيل حيويّة. ومن أشهر الأمثلة تمثال "الفتاة الراقصة" الصغير (نحو 2500 ق.م) من وادي السند، الذي يُعتبر واحداً من أقدم المنحوتات البرونزية المعروفة.
في العصور الكلاسيكية، برع الإغريق في صناعة تماثيل برونزية بالحجم الطبيعي للآلهة والرياضيين، إلا أنّ القليل منها نجا بسبب التآكل وإعادة التدوير مع مرور الزمن. وواصل الرومان هذا التقليد، فصبّوا تماثيل برونزية خالدة للآلهة ورجال الدولة - مثل "مؤسّسي روما" رومولوس ورموس - والقادة العسكريين.
في العمارة والفن المعاصر
ثمّة أمثلة عدّة تبرز كيف يمكن للبرونز أن يكون أداة للتدمير في لحظة، ثم يُعاد تشكيله ليصبح موضوعاً للجمال والتقدير. ويشهد التاريخ على حادثة إذابة التمثال البرونزي الضخم الذي نحته ميكيلانجلو للبابا يوليوس الثاني بعد ثلاث سنوات فقط من إزاحة الستار عنه ليُصنع منه مدفع. وعلى الجانب الآخر، جعلت متانة البرونز منه مادة مثالية للأسلحة: ففي القرن الخامس عشر، أمر السلطان محمد الفاتح بصناعة مدافع برونزية عملاقة للجيش العثماني، ظل أحدها قيد الاستخدام بعد أكثر من 300 عام، يطلق القذائف حتى القرن التاسع عشر.
النُصُب البرونزية في العالم العربي
في ساحة الشهداء بوسط بيروت، ينتصب تمثال برونزي ضخم شاهداً على التاريخ. أُقيم عام 1960 تكريماً للوطنيين اللبنانيين الذين أُعدموا عام 1916، ويضمّ أربعة أشخاص مصبوبين بالبرونز، ولا تزال أجسادهم المعدنية تحمل آثار الرصاص والشظايا من الحرب الأهلية.
في القاهرة، يطلّ تمثال برونزي لأم كلثوم على ضفاف النيل، محتفياً بأيقونة وحّدت العالم العربي بصوتها. أما في دمشق، فيقف نصب برونزي ضخم لصلاح الدين الأيوبي أمام القلعة، وقد أزيح عنه الستار عام 1993، ليصوّر السلطان في القرن الثاني عشر منتصراً.
كما يتجه فنانون معاصرون في الشرق الأوسط إلى البرونز لرواية قصص جديدة. ففي جامعة الشارقة، عرض النحات العراقي معتصم الكبيسي قبل سنتين عملاً بعنوان "الطبول"، وهو قطعة برونزية تجسّد ثلاثة أشخاص في حالة جنونية، أحدهم يقرع طبلاً، لتجسيد العنف الطائفي الذي اجتاح العراق بعد 2003. هذا العمل الحديث، المصبوب من المادة نفسها التي صنعت منها الأسلحة القديمة، يعبّر بعمق عن مكانة البرونز في صون الذاكرة الثقافية والتعليق عليها.
من بين المعادن التي عرفها الإنسان، يبقى البرونز شاهداً متفرّداً على رحلته الطويلة، متجاوزاً وسائل الدفاع والتعبير الفنّي، ومتحوّلاً إلى لغةٍ تجمع بين العنف والجمال. والإنسانية تختزن في كلّ شاهد برونزي جزءاً من ذاكرتها، وتُدوّن بالمعدن ما لا يُكتب.
0 تعليق