في حديث الشعر (19) - هرم مصر

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في حديث الشعر (19) - هرم مصر, اليوم الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 04:27 مساءً

هرم مصر - في الحلقة السابقة (رقم 18 - "النهار العرببي" - 29تموز/يوليو 2025) كتبْتُ أَنَّ طريقة الكتابة (شكلًا) لا تعطي هوية النص، بل تقْنيةُ النَصّ هي التي تُحدِّد هويّته: شعرًا أَو نثرًا. فللشعر تقْنيةٌ خاصة يعرفُها قارئُ الشعرِ المتنوِّرُ المتمرِّسُ العارفُ (هنا يتساوى القارئ العارف مع الناقد العارف). وإِذا كان الناثرُ غيرَ مُلِمٍّ بتقْنية الشعر (وليس بالضرورة أَن يكون كذلك) فالمفترَض أَن يُلِمَّ الشاعرُ بتقْنية التوأَمين معًا، سواءٌ كاتبًا شِعرَه أَو "قارئًا" شِعر سواه.
كيف يكون الشاعر قارئًا ناقدًا والناثر كذلك؟

الشاعر "قارئًا" (= ناقدًا)
الشاعرُ المتمكِّن (شعرًا كتَبَ وَ/أَو نثرًا) قلَّما يأْتي دُرْبَةً إِلَّا ويُتقنها. كأَنَّ له، إِلى موهبته شاعرًا، موهبةَ إِتقان الدُّرَب، بعين الناقد الدَؤُوب ومِجهر البَحَّاثة الطُّلَعَة. هكذا، كلُّ نصٍّ يَمُرّ على غرباله يَخرج عاريًا إِلَّا من القمح: لرنَّة أَفكاره على المنصَّة رنينُ الأَصالة في سوق الجواهر، ولإِيقاع كلماته في المتلقّي (مستمعًا أَو قارئًا) توقيعُ الحق في قولة الحقيقة. بذلك لا يتوقّف معه الحَدَث عند مناسبة الحدَث (وهو قد يستخدمُها حُجّةً أَو حافزًا) بل تصبحُ كلمتُهُ هي هي الحدَث، فتعيشُ لا مَحطةَ أَدبٍ عبَرَت، بل سفَرًا إِلى أَدبٍ حدودُه لا يؤطِّرها أُفُق. عندها تنتصر نصوصه على عوابر المُناسبات، وتبقى بعده نصوصًا أَدبيةً "تَحَجَّجَت" بِمناسبةٍ كانت ذاتَ يوم، لتبقى مراجعَ أَدبيةً، ومذاهبَ نظريةً، ومراجعَ تطبيقيةً يعاد إِليها. ذلك لأَنه يكون أَنتجَ نظَرًا معمِّقًا، قطفَ منه نِظرةً عُمقيَّةً حصدَ إِليها نظريةً عميقةً في الجمال واتِّباع الأُصول، فإِذا كلامه على الشِعر أَو النثر (من مِجهره النقديّ)، إِضاءَةٌ على ما يَصدُر بعده من شعر ونثر، تكون قمحًا ذُخْرَويًّا لا إِلى زُؤَان. 

 

عبد القاهر الجرجاني: بلاغة النص شعرًا ونثرًا

 

الأَساس: القارئُ كيف يَقرأ
إِنَّ "قارئَ" القصيدةِ الجيدَ لا يقلُّ أَهميةً عن كاتب القصيدة، و"قارئَ" النصِّ النثريِّ المتبصِّرَ لا يقلُّ إِبداعًا عن كاتب النصّ. المُتلقّي شريكُ المُبدع: ما قيمةُ بلبلٍ يُعَنْدِلُ في قعر وادٍ وليس من يَسمع عندلاتِه؟ وما قيمةُ أَرجٍ يَضوعُ من وردةٍ متكئةٍ على سياجٍ، وليس مَن يَمُر حدَّ السياج فيشمُّ العبير؟ 

العلاقةُ بين المبدع والمتلقّي، هي في تَوازٍ لا يقبَل الخلَل. ويسمو التوازي إِذا كان المتلقِّي ناقدًا، فلا يكون نصُّه مرآةَ النصِّ المنقودِ بل كتابةً له أُخرى تكشف منه الكوامن واللقيَّات. ورُبّ ناقِدٍ يثقِّفُ شعبًا بنصٍّ أَدبيٍّ جماليّ، لأَنه يتلقَّى نصَّ سواه ليُعيدَه، بنصِّه هو، شكْلًا آخرَ للإِبداع: يَقْرأُ نثرًا فيقشِّرُ النثرَ نصًّا وسكبًا وسبْكًا وتراكيب، ويقرأُ الشعر فيُشَرِّحُ الشعر بِمبضعه الجرَّاح، لتخرُجَ القصيدةُ من بينِ يديه حاملةً هُويّةً تَجعلُها على مدخل الشعر، أَو في قلب الشعر، أَو تَجعلُها... شعرًا أَكثر. 

 

خليل حاوي: التشدُّد في ثقافة الناقد

خليل حاوي: التشدُّد في ثقافة الناقد

 

القارئ ناقدًا
دأْبُ مِجهر الناقد، في النثر والشعر معًا: التمسُّكُ بقيَم الأُصول ومقاييس الجمال، لا تَحَجُّرًا فيها بل حرصًا عليها عصمةً من سقوط. لا يُشيحُ عن الجديد حين هذا لؤْلُؤُ فنٍّ عالٍ، بل يُشيح إِذا كان زبَدَ موجةٍ تَحمل موضة ("الحداثة قيمةٌ لا موجة"، يرى رولان بارت).
إنه إذًا يقرأُ قصيدةَ الشعر بنتَ الأُصول في الشعر، كما يقرأُ نضيدةَ النثر بنتَ الأُصول في النثر. فرُبَّ نضيدة نثريةٍ عاليةٍ تساوي عشَراتِ القصائد المنظومةِ عروضيًا ولا شعرَ فيها، وربَّ قصيدةٍ شعرية جيّدةٍ تساوي عشراتِ نصوصٍ نثريةٍ غيرِ مشغولةٍ فنيًّا ولا تُساوي، مَجموعةً، نضيدةَ نثرٍ عاليةً واحدة.

 

طه حسين: الفصل التقْني بين الشعر والنثر

طه حسين: الفصل التقْني بين الشعر والنثر

 

لا خلْط بين الشعر والنثر
هكذا "القارئ" (= الناقد) يرى الشعرَ شِعرًا، والنثرَ نثرًا، فلا يَخلط بينهما. يعرف أَنَّ النثرَ فنٌّ عظيمٌ في ذاته، والشعرَ فنٌّ عظيمٌ في ذاته. والنثرُ العالي، لِجعْل مستواه أَرفع شأْنًا، ليس يَحتاجُ إِلى استعارة مفرداتٍ من قاموس الشعر ("شعر منثور"، "نثر شعري"، "شعر حُرّ"، شعر "حديث"،...). فالنثر الفنيُّ الجمالِ أَرفعُ من النثر العادي، والشعرُ أَرقى من النظْم المحسوبِ شعرًا يتلطَّى وراءَ النظْم صاحبُه الذي قد يكون أُستاذَ عروضٍ ناجحًا، لكنه لا يُبْدِعُ طَوال حياته بيتَ شعرٍ واحدًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق