مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في تحليله لتاريخ الجنون، استخدم الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو رمز متخيل لـ"سفينة المجانين" حيث يقوم المجتمع بنفي واستبعاد من لا يتوافق مع معايير العقل السائدة ويرسل الذين يعتبروا مجانين أو غير مرغوب فيهم على متن سفن تجوب الأنهار الأوروبية دون قبطان. وفي عصرنا، قد نرى صدى لهذه الأمثولة في محطات الأبحاث القطبية المعزولة؛ فهي أشبه بـ "سفن مجانين" حديثة أُلقي بها في بحر من الجليد، وعلى متنها طاقم من البشر محكومون بالعزلة لأشهر طويلة في الظلام.

وعلى متن هذه "السفينة القطبية" المعاصرة، يتآكل الخط الفاصل بين العقل والجنون، ليصبح الخطر الأكبر ليس ما يكمن في الخارج، بل ما يتربص في أعماق النفس البشرية المحاصرة؛ إذ تعد القارة القطبية الجنوبية مختبرا طبيعيا فريدا لقياس حدود القدرة البشرية على التحمل في أقصى البيئات قسوة على وجه الأرض.

ولهذا المختبر المتجمد ثمنه الباهظ أحيانا، وهو ما تجلى بوضوح مؤخرا وبالتحديد في مارس/آذار 2025، عندما اهتزت محطة الأبحاث الجنوب أفريقية "ساني 4" (SANAE IV) على وقع حادثة صادمة في تلك البقعة الهادئة من الأرض؛ حيث هدد أحد العمال، بحسب التقارير، زملاءه واعتدى عليهم، وهذا استدعى تدخلا نفسيا عاجلا عن بعد لإعادة الهدوء إلى طاقم المحطة المكون من 9 أشخاص.

ولم يكن ذلك الحادث مجرد واقعة معزولة، بل اعتبره متابعو تاريخ القارة المتجمدة أحدث حلقة في سلسلة طويلة من التصورات والحقائق التي تحيط بأنتاركاتيكا. وبصفتها مؤرخة للقارة القطبية الجنوبية، تقول دانييلا مكاهي، الأستاذة المساعدة في التاريخ بجامعة تكساس التقنية: "إن الأحداث التي وقعت في "ساني 4″ تمثل استمرارا للتصورات بأن بيئات أنتاركتيكا يمكن أن تثير سلوكا مزعجا للغاية، بل وتدفع الناس إلى حافة الجنون".

هذا الخيط الرفيع بين العبقرية والانهيار، وبين البقاء والجنون، لطالما نسج خيالات الأدباء وحكايات المستكشفين، راسما صورة للقارة ليست مجرد أرض من الجليد، بل هي أيضا مرآة لأعماق النفس البشرية، ويرصد هذا المقال لدانييلا مكاهي الذي نشرته في موقع ذا كونفيرذيشن، بعض جوانب تلك الأجواء المثيرة والغامضة.

تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية
يروي أدب أنتاركتيكا قصصا تمتزج فيها الخيال بالحقيقة، حيث تدفع بيئة القارة المتجمدة البشر لمواجهة الصراع بين البقاء والانهيار النفسي (الجزيرة)

جنون خيالي وحكايات حقيقية

تُصوّر أقدم الأمثلة في أدب أنتاركتيكا القارة على أنها تؤثر في العقل والجسد معا. في عام 1797، على سبيل المثال، قبل أكثر من عقدين من أول مشاهدة للقارة من قبل الأوروبيين، كتب الشاعر الإنجليزي صامويل تايلور كولريدج قصيدته "أغنية البحار العجوز" (The Rime of the Ancient Mariner). تحكي القصيدة حكاية سفينة دفعتها العواصف إلى متاهة لا نهاية لها من الجليد في أنتاركتيكا، والتي يهربون منها باتباع طائر القطرس (نوع كبير الحجم من الحمام البحري). ولأسباب غير مبررة، قتل أحد الرجال طائر القطرس وواجه عذابا مدى الحياة لفعله ذلك.

إعلان

في عام 1838، نشر أديب الرعب الشهير إدغار آلان بو قصة "آرثر غوردون بيم من نانتوكيت" (Arthur Gordon Pym of Nantucket)، الذي رحل إلى المحيط الجنوبي. حتى قبل الوصول إلى أنتاركتيكا، تتضمن الحكاية تمردا، وأكل لحوم البشر، وسفينة بطاقم من الرجال الأموات. مع نهاية القصة، ينجرف بيم واثنان آخران جنوبا، ويواجهان شلالا هائلا من الضباب يبدو لا نهاية له، والذي ينشق أمام قاربهم، ليكشف عن شخصية شبحية كبيرة.

أما قصة كاتب الخيال العلمي الأميركي هوارد فيليبس لافكرافت التي كتبها عام 1936 بعنوان "عند جبال الجنون" (At the Mountains of Madness)، فمن شبه المؤكد أنها استندت إلى قصص حقيقية عن استكشاف القطبين. فيها، يواجه رجال بعثة خيالية إلى أنتاركتيكا ظروفا "جعلتنا لا نتمنى سوى الهروب من هذا العالم الجنوبي من الخراب والجنون المطبق بأسرع ما يمكن". حتى إن أحد الرجال يختبر "رعبا نهائيا" لم يُسمَّ، يتسبب في انهيار عقلي حاد.

ويتضمن فيلم المخرج الأميركي جون كاربنتر لعام 1982 "الشيء" (The Thing) أيضا هذه الموضوعات، عندما يتم اصطياد رجال محاصرين في محطة أبحاث في أنتاركتيكا من قبل كائن فضائي ينتحل شخصية أعضاء القاعدة الذين قتلهم بشكل مثالي. ويسود جنون الارتياب والقلق، إذ يتصل أعضاء الفريق بشكل محموم طالبين المساعدة، ويتم سجن الرجال أو تركهم في الخارج أو حتى قتلهم من أجل الآخرين. وسواء كان ذلك لتجهيز أنفسهم لما قد يأتي أو كمجرد تقليد ماتع، يشاهد طاقم الشتاء في محطة القطب الجنوبي التابعة للولايات المتحدة هذا الفيلم كل عام بعد مغادرة آخر طائرة قبل حلول الشتاء.

فيلم المخرج الأميركي جون كاربنتر لعام 1982
في أنتاركتيكا، يواجه باحثون أمريكيون كائنا فضائيا يقلد ضحاياه، مما يزرع الشك والخوف بينهم ويحولهم لصراع مروع ضد بعضهم البعض (الجزيرة)

ولهذه القصص عن "جنون" أنتاركتيكا بعض الأساس في التاريخ. فهناك حكاية متداولة في دوائر أنتاركتيكا الحديثة عن رجل طعن، وربما قتل، زميلا له بسبب لعبة شطرنج في محطة فوستوك الروسية عام 1959.

وأكثر يقينا كانت التقارير عام 2018، عندما طعن سيرجي سافيتسكي أوليغ بيلوغوزوف في محطة الأبحاث الروسية بيلينغسهاوزن بسبب مظالم متعددة، بما في ذلك تلك التي استولت عليها وسائل الإعلام بشكل كبير: ميل بيلوغوزوف إلى كشف نهايات الكتب التي كان سافيتسكي يقرؤها. وقد أُسقطت تهمة جنائية ضده.

وفي عام 2017، أفاد الموظفون في محطة جزيرة ماريون شبه القطبية التابعة لجنوب أفريقيا أن أحد أعضاء الفريق حطم غرفة زميل له بفأس بسبب علاقة عاطفية.

بعثة
بعثة "بلجيكا" (Belgica expedition) بين عامي 1898 و1899، وهي أول مجموعة معروفة تقضي الشتاء داخل الدائرة القطبية الجنوبية (شترستوك)

الصحة العقلية

تعود المخاوف بشأن الصحة العقلية في أنتاركتيكا إلى أبعد من ذلك بكثير. في ما يسمى بـ"العصر البطولي" لاستكشاف أنتاركتيكا، من حوالي عام 1897 إلى حوالي عام 1922، أعطى قادة البعثات الأولوية للصحة العقلية للرجال في بعثاتهم. وكانوا يعلمون أن أطقمهم ستحاصر في الداخل مع نفس المجموعة الصغيرة لأشهر متتالية، في الظلام والبرد القارس.

إعلان

وكتب الطبيب الأميركي فريدريك كوك، الذي رافق بعثة "بلجيكا" (Belgica expedition) بين عامي 1898 و1899، وهي أول مجموعة معروفة تقضي الشتاء داخل الدائرة القطبية الجنوبية، بعبارات يائسة عن كونه "محكوما عليه" لـ"رحمة" القوى الطبيعية، وعن مخاوفه من "البرد المجهول وتأثيراته المحبطة للروح" في ظلام الشتاء. وفي كتابه الصادر عام 2021 عن تلك الرحلة، وصف الكاتب جوليان سانكتون السفينة بـ"مستشفى المجانين في نهاية الأرض".

وأصبحت مخاوف كوك حقيقة. إذ اشتكى معظم الرجال من "ضعف عام في القوة، وقصور في عمل القلب، وخمول عقلي، وشعور عام بعدم الراحة".

وكتب كوك: "عندما كانوا يعانون بشكل جدي، شعر الرجال بأنهم سيموتون بالتأكيد" وأظهروا "روحا من اليأس المدقع".

وبكلمات الفيزيائي الأسترالي لويس برناتشي، عضو بعثة "الصليب الجنوبي" (Southern Cross expedition) بين عامي 1898 و1900، "هناك شيء غامض وغريب بشكل خاص في تأثير الأجواء الرمادية لليلة أنتاركتيكا، والتي من خلال وسطها غير المؤكد، يلوح المشهد الأبيض البارد غير ملموس كحدود عالم الشياطين".

People explore Antarctica discover the beauty of South Pole. Expedition, travel and adventure in Antarctic pristine nature. Fly above frozen blue ocean panorama, glaciers and snow covered mountains
الظروف القاسية في أنتاركتيكا تدفع الباحثين إلى تجربة مشكلات نفسية وسلوكية غير مسبوقة قد تصل حد الجنون (شترستوك)

رحلة مؤلمة

بعد بضع سنوات، شهدت البعثة الأسترالية الآسيوية لأنتاركتيكا، التي امتدت من عام 1911 إلى عام 1914، عدة مآسٍ كبرى، بما في ذلك حالتا وفاة خلال رحلة استكشافية تركت قائد البعثة دوغلاس موسون جائعا ووحيدا وسط تضاريس مليئة بالشقوق العميقة. واستغرقت مسيرة الـ100 ميل إلى بر الأمان النسبي شهرا كاملا.

وجرت مجموعة من الأحداث أقل شهرة في نفس البعثة شملت مشغل التلغراف اللاسلكي سيدني جيفريز، الذي وصل إلى أنتاركتيكا عام 1913 على متن سفينة إمداد. وكانت قاعدة البعثة، كيب دينيسون، تتمتع ببعض أشد الظروف البيئية التي واجهها أي شخص في القارة، بما في ذلك رياح قُدرت سرعتها بأكثر من 160 ميلا في الساعة (حوالي 257 كيلومترا في الساعة).

بدأ جيفريز، وهو الرجل الوحيد في الطاقم الذي يمكنه تشغيل التلغراف اللاسلكي، في إظهار علامات جنون الارتياب. وأرسل رسائل إلى أستراليا يقول فيها إنه الرجل العاقل الوحيد في المجموعة ويدعي أن الآخرين كانوا يخططون لقتله.

وفي رواية موسون عن البعثة، ألقى باللوم على الظروف، وكتب: "لا شك أن الضغط المستمر والحاد لإرسال واستقبال الرسائل في ظل ظروف غير مسبوقة كان من الشدة بحيث أصيب في النهاية بانهيار عصبي".

Race for research at continent of science and peace Antarctica- - ANTARCTICA - FEBRUARY 08 : Assistant Prof. Dr. Burak Karacik, Istanbul Technical University - Faculty of Naval Architecture and Ocean Engineering, watches the view from deck as they pass through the Lemaire Channel, Antarctica, Polar Regions on February 08, 2019. Turkish scientific research team began their journey within the 3rd National Science Antarctica Expedition, under the auspices of Presidency of
لا تمثل أنتارتيكا مجتمعا علميا دوليا تعاونيا فحسب، بل تمثل أيضا مكانا يتغير فيه السلوك البشري (الأناضول)

وكان موسون يأمل أن يساعد قدوم الربيع وإمكانية ممارسة التمارين في الهواء الطلق، لكن ذلك لم يحدث. وبعد وقت قصير من عودته إلى أستراليا في فبراير/شباط 1914، عُثر على جيفريز وهو يتجول في الأدغال الأسترالية وتم إيداعه في مصحة عقلية. ولسنوات عديدة، تم تجاهل دوره في استكشاف أنتاركتيكا، إذ بدا كأنه وصمة عار أو إحراج للمستكشفين في أنتاركتيكا.

وتتأسف الكاتبة قائلة: مع الأسف، إن التركيز العام الواسع على أنتاركتيكا كمكان يسبب سلوكًا مزعجًا يجعل من السهل التغاضي عن مشاكل أكبر وأكثر منهجية.

وفي عام 2022، أصدر برنامج أنتاركتيكا التابع للولايات المتحدة وكذلك القسم الأسترالي لأنتاركتيكا تقارير تفيد بأن الاعتداء والتحرش الجنسي شائعان في قواعد أنتاركتيكا وفي المخيمات الميدانية الأكثر بعدا. ولم يربط العلماء عموما تلك الأحداث بخصوصيات البرد والظلام والعزلة.

وتقول الأكاديمية ومؤرخة القارة المتجمدة دانييلا مكاهي أنه بينما يتطلع البشر للعيش في بيئات قاسية أخرى، مثل الفضاء، لا تمثل أنتارتيكا مجتمعا علميا دوليا تعاونيا فحسب، بل تمثل أيضا مكانا يتغير فيه السلوك البشري، منعزلا عن المجتمع ككل. إن احتفالات يوم منتصف الشتاء تكرم البقاء في مكان من العجائب هو أيضا مكان من الرعب، إذ لا يكمن الخطر الأكبر في ما هو بالخارج، بل في ما هو بداخل عقلك.

المصدر: الجزيرة + ذا كونفرسيشن + مواقع إلكترونية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق