في عالم يدّعي التحضر والعدالة، تسقط كل الأقنعة حين نواجه مشهدًا مثل غزة. رجل مثل دونالد ترامب، يخرج ليعلن وقف الحرب ضد إيران وكأنّه يمنّ على العالم بجرعة «رحمة» مؤقتة، بينما المجازر مستمرة في غزة دون هوادة. أي «محارب» هذا الذي يوقّع على هدنة في طهران، ويصمت أمام أشلاء الأطفال في رفح؟.. هل هذه هي الواقعية السياسية التي يُروج لها بعض المتحذلقين؟.
وقف الحرب عند حدود مصالحه، لا عند حدود الدم. استراحة محارب؟.. بل استراحة تاجر سلاح، لا يعرف من لغة السياسة إلا ما يُباع ويُشترى، لا تعنيه صرخات الأمهات ولا تقارير المنظمات. إنه زمن الكذب الدولي.. زمن ازدواجية المعايير الفجة.
وسط زحام التعليقات والتغريدات، يغيب السؤال الحقيقي. الكل يتسابق في سرد الأرقام: عدد الصواريخ، المواقع المستهدفة، خسائر الطرف الآخر. لكن لا أحد يتوقف ليسأل: هل انتهت الحرب؟ وهل تحقق شيء من أهدافها؟.. أم أن ما نعيشه ليس سوى حلقة مكرّرة في سلسلة عبثية طويلة، نُعاد إنتاجها كل بضع سنوات باسم الردع والردع المضاد؟.
في هذا الصخب، تطفو على السطح خطابات إعلامية جوفاء، يتباهى أصحابها بـ«انتصارات» وهمية هنا وهناك، وكأنّ الدمار وحده بات معيارًا كافيًا للفوز. يتحدثون عن الغارات على إيران وكأنها مشهد منفصل، وينسون — أو يتناسون — أن الطيار الذي يقصف مفاعلاً في أصفهان هو ذاته من قتل عائلات كاملة في دير البلح وخان يونس. نفس العقلية، نفس الدم، نفس الأداة.. والنتيجة ذاتها: موت بلا مبرر.
في غزة، يموت الناس في طوابير الخبز. أكثر من 90 شهيدًا في يوم واحد، معظمهم من المدنيين، وبينهم أطفال بأعمار الزهور. بأي منطق يمكن فصل هذا المشهد عن سياق الحرب الشاملة؟.. وكيف يجرؤ البعض على تبرير القتل هنا، والاحتفاء بالدم هناك؟.
الانتصار الذي لا يوقف الدم، ليس انتصارًا.. بل بداية لانهيار جديد..
من النكبة إلى النكسة، من اجتياح بيروت إلى عدوان 2006، من كل حرب تعلن فيها إسرائيل انتصارها، نخرج بدماء جديدة وجنازات جديدة وخراب أوسع. لا انتصار حين تكون النتيجة الوحيدة هي الخراب، إنها سياسة الأرض المحروقة، لا الأرض المحررة.
أما الحديث عن «ضربات استراتيجية» على منشآت إيران النووية، فلا يعدو كونه واجهة إعلامية مضللة، فالمشروع النووي الإيراني ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لعقود طويلة، تعود إلى عهد الشاه وبدعم من الغرب ذاته، كل ضربة توصف بأنها رادعة قد تتحول إلى عامل تسريع لصراع أوسع وأخطر، قد لا تنجو منه عواصم كثيرة.
لكن الأخطر من السلاح، هو من يبرر السلاح، أولئك الذين يزينون المجازر بلغة التحليل السياسي، ويُقدّمون أنفسهم كخبراء موضوعيين، هم في الحقيقة لا يرون في طهران إلا عدواً وجودياً، حتى لو كان الثمن استمرار المجازر في غزة، الحقد يُعمي البصيرة، ويجعل من الحقيقة عدواً، ومن الفن تهديداً، ومن أي رأي مختلف خصمًا يجب إلغاؤه.
والمثير للسخرية أن هذه الفئة لا تملك حتى شجاعة الموقف، لا تُؤمن بمبدأ، لا تنتمي إلى عقيدة، ولا تسعى لعدالة، هي فقط تنفث كراهيتها وتُغلّفها بمصطلحات عسكرية جوفاء.
أن تصفهم بالخونة فيه كثير من الإنصاف، لأن الخيانة على الأقل تفترض صفقة وثمنًا، أن تصفهم بالجهل هو تبسيط مخلّ، لأن الجهل قد يكون بريئًا. أما هم، فلا يستحقون سوى وصف واحد: أنذال.
وهكذا.. تبقى الحرب مشتعلة في جوهرها، حتى لو صمتت البنادق. فثمة خراب أخلاقي يعلو فوق كل قذيفة، وظلم لا تسكته صفقات السياسة. ومن أراد أن يفهم ما يجري، فليبدأ من دمعة طفل في غزة.. لا من بيان عاجل على شريط الأخبار!!.
اقرأ أيضاً
ترامب يعرب عن فخره بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار في الشرق الأوسطترامب: البرنامج النووي الإيراني انهار بالكامل وإعادة بنائه أمر صعب
0 تعليق