في تطور لافت يُعيد تشكيل معادلة الردع في الشرق الأوسط، خرجت إسرائيل عن صمتها لتؤكد رسميًا أن منشأة "فوردو" الإيرانية الحساسة قد أصبحت خارج الخدمة، إثر ضربات عسكرية استهدفت العمق النووي الإيراني بمشاركة أميركية مباشرة.
هذا الإعلان، الذي جاء على لسان عوزي أراد، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، لم يكن مجرد تقييم استخباراتي، بل رسالة سياسية وعسكرية تؤكد أن تل أبيب دخلت مرحلة جديدة من التعامل مع الملف النووي الإيراني، تقوم على الضرب الاستباقي والتعطيل المستمر.
وبينما تتوالى التقديرات بشأن حجم الأضرار وخيارات طهران القادمة، يفتح تصريح أراد نافذة على استراتيجية إسرائيلية أكثر جرأة وأقل صبرًا، عنوانها: "لا خطوط حمراء بعد اليوم".
"فوردو لم تعد تعمل".. الضربة التي عطّلت قلب المشروع النووي
بدأ أراد حديثه بتوضيح مدى تأثير الضربة العسكرية على منشأة فوردو، التي تُعد أحد أكثر المواقع تحصيناً في إيران، وتقع في منطقة جبلية قرب مدينة قم، وقد خُصصت لتخصيب اليورانيوم بدرجات عالية. "منشأة فوردو قد تم إلغاء تشغيلها، لم تعد تشتغل، ولا يمكن أن تستمر في عملياتها"، بهذه العبارة الحاسمة وضع أراد نقطة نهاية ـ ولو مؤقتة ـ لأحد أبرز رموز التخصيب الإيراني.
لكن أراد لم يتوقف عند مجرد توصيف فني، بل أشار بوضوح إلى أن الضربة ليست فقط تعطيلا تكتيكيا، بل استراتيجية ردع متجددة، تقوم على استهداف أي محاولة مستقبلية لإعادة بناء المرفق.
في عمق تحليله، يؤكد أراد أن الموقع تعرض لأضرار كبيرة جدا، شملت أجهزة التخصيب الخاصة، التي تعتبر العمود الفقري لتشغيل المنشأة.
وأوضح أن هذه الأجهزة "تم تدميرها بكل شكل من الأشكال"، مرجحًا ألا تكون إيران قادرة على تفكيكها أو إخراجها قبل الضربة، نظرًا لتعقيد تركيبها وتقنياتها العالية.
ما الذي نُقل من فوردو؟ وماذا بقي؟
يبدي أراد خلال حواره شكوكا مدروسة حول احتمال أن تكون بعض المواد قد تم نقلها، مثل كميات محدودة من اليورانيوم، لكنه في الوقت ذاته يُشكك في أن تكون إيران قد تمكنت من سحب أجهزة التخصيب نفسها، معتبرًا أن أي محاولة من هذا النوع "صعبة للغاية". "ربما بعض المواد نُقلت، ربما بعض اليورانيوم الموجود، وإذا كان هذا هو الوضع، فإن هذا اليورانيوم سيتم البحث عنه وإيجاده في مكان آخر"، يضيف أراد، ليؤكد أن الرقابة الاستخباراتية مستمرة، حتى خارج فوردو.
ويُلمح أراد إلى أن ما تم تدميره في فوردو لا يقتصر على البنية المادية، بل يُصيب البرنامج ككل في صميمه، من خلال تعطيل منشأة لا يمكن استبدالها بسهولة.
الضربة مركّزة لكنها شاملة
في معرض تحليله، لم يقتصر أراد على فوردو وحدها، بل تحدث عن ضربة أوسع استهدفت ثلاث منشآت نووية رئيسية في إيران:
فوردو: معمل التخصيب العميق شديد التحصين. نطنز: المركز الصناعي الرئيسي لتخصيب اليورانيوم. أصفهان: موقع تحويل اليورانيوم وإنتاج الوقود النووي."المرافق الرئيسية التي تم استهدافها فوردو، أصفهان، نطنز كانت مرافق رئيسية وأساسية... وقد تم تدميرها جميعها". وبذلك، بحسب أراد، فإن الضربة حققت هدفها الكامل المعلن: شلّ الأعمدة الرئيسية للقدرة النووية الإيرانية، مؤقتًا على الأقل.
لكن ما يهم في قراءة هذا التصريح هو أنه لا يضع حدًا نهائيًا للبرنامج النووي الإيراني، بل يؤسس لفهم أمني إسرائيلي قائم على "التعطيل المتكرر"، وليس الردع لمرة واحدة.
ليس الهدف القنبلة فقط.. بل قدرة إيران على التخصيب
في أحد أهم مقاطع حديثه، أشار أراد إلى أن الضربة لا تستهدف وجود قنبلة نووية بعينها، لأن المعلومات المتوفرة "لا تؤكد وجود سلاح نووي جاهز لدى إيران". لكنه شدد على أن القدرة على تصنيع السلاح هي التي جرى استهدافها.
"من المؤكد جداً أنه، ولدرجة كانت إيران تقترب من تطوير برنامجها، تم الهجوم عليها". هذا التصريح يُعيد التأكيد على ما يُعرف في الاستراتيجية الإسرائيلية بعقيدة "المنع المسبق" أو الضربات الاستباقية المركزة، والتي لا تنتظر الوصول إلى مرحلة القنبلة، بل تُعطل مراحلها الأولى.
الهدف النهائي.. لا سلاح نووي لإيران
تصريحات أراد تُقدّم رؤية واضحة للهدف الإسرائيلي ـ الأميركي المشترك، والذي لا يحتمل التأويل: "علينا أن نتذكر أن الأهداف ليست فقط للولايات المتحدة وإسرائيل، بل أن إيران لن يكون لديها السلاح النووي، هذا هو الهدف".
لكن الأهم من التصريح، هو ما تضمنه من تحذير واضح، بأن الضربة الحالية ليست نهاية التحرك، بل قد تتبعها جولات أخرى، إذا ما ثبت أن إيران تحاول إعادة بناء المنشآت أو تسريع برنامجها من جديد.
هل تمت المهمة أم أن "المرحلة الثانية" على الأبواب؟
من خلال نبرة الحديث، يتضح أن أراد لا يعتبر أن المهمة انتهت، بل يؤكد أن المرحلة الحالية هي مرحلة مراقبة وتتبع واختبار للنوايا الإيرانية. فإسرائيل ـ كما يبدو من خلف سطور التصريحات ـ لا تتجه إلى تهدئة، بل إلى تثبيت مبدأ الردع بالاستمرار، وفرض معادلة عسكرية تقوم على "الضرب عند الضرورة، وبلا إنذار".
كما أن توسيع بنك الأهداف ليشمل مواقع صواريخ بعيدة المدى في وسط إيران، كما أعلن الجيش الإسرائيلي، يشير إلى أن العملية تخطت الجانب النووي البحت، لتستهدف أيضًا القدرات الإيرانية على الرد أو التصعيد، وهو ما قد يُدخل المنطقة في مرحلة طويلة من المواجهة الاستخباراتية والضربات المحدودة والمتبادلة.
في ضوء التصريحات الحاسمة التي أدلى بها عوزي أراد، يتضح أن الضربة التي استهدفت منشأة فوردو النووية الإيرانية لم تكن مجرد عمل عسكري عابر، بل حلقة محورية ضمن استراتيجية إسرائيلية ـ أميركية أوسع تهدف إلى تعطيل المشروع النووي الإيراني وإعادة رسم قواعد الاشتباك في المنطقة. وبينما ترى تل أبيب أن أهداف العملية قد تحققت مرحليًا، فإنها تُبقي يدها على الزناد، مدفوعة بعقيدة الردع الاستباقي ومبدأ "الضربة المكررة إذا اقتضى الأمر".
وفي المقابل، لا تزال إيران تلوذ بالصمت الرسمي، ما يُبقي المشهد مفتوحًا على احتمالات تصعيد خفي أو رد غير مباشر عبر ساحات النفوذ الإقليمي. وعليه، فإن ما بعد فوردو لن يكون كما قبلها، لا في حسابات الأمن الإسرائيلي، ولا في توازنات الصراع النووي في الشرق الأوسط.
0 تعليق